السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
الكلام في المسجد , الكثير منا قد يصادفه التحدث والكلام بالمسجد ويتكلم بطيب خاطر .. كونه لا يعرف الحكم الإسلامي للحديث والكلام في المسجد ! فهل فكرنا في حكم ذلك في الشريعة الإسلامية ؟! هذا ما سنتناوله اليوم إن شاء الله وقد قسمت الموضوع إلي عدة أحكام بمسائل مختلفة لتغطية الموضوع
كاملاً وبصورة واضحة .. دون نقصان أو بهتان بإذن الله .. وعلي بركة الله نبدأ موضوعنا ..
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :
المسألة الأولى : حكم الكلام المحرم في المسجد :
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم الغيبة ، والنميمة ، والكلام البذيء في داخل المسجد ، ويزداد التحريم إذا كان هناك رفع للصوت وتشويش على المتعبدين ، ويستدل لذلك بما يلي :
1 – قال تعالى : " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ... " [ آية 36 من سورة النور ] .
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره ( 6/62 ) [ أي أمر لله – تعالى – برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس ، واللغو ، والأفعال ، والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : " في بيوت أذن الله أن ترفع " قال : نهى الله – سبحانه – عن اللغو فيها ، وكذا قال عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء التفسير ] .
ونقل البغوي – رحمه الله – في تفسيره ( 6/50 ) عن الحسن ، قولَه : أي تعظَّم ( 1 ) ، أي : لا يذكر فيه الخنا من القول .
2 – عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بنى رحبةً في ناحية المسجد ، تسمى : ( البطيحاء ) ، وقال : من كان يريد أن يَلْغَطَ ، أو ينشد شعراً ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة ( 2 ) .
وجه الاستدلال : أن عمر – رضي الله عنه – أمر من أراد أن يلغط ، بالخروج من المسجد ، وما ذاك إلا لعلمه – رضي الله عنه – بالنهي عن ذلك .
قال الباجي في المنتقى ( 1/312 ) : [ ولما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كثرة جلوس الناس في المسجد ، وتحدثهم فيه ، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط ، وهو : المختلط من القول، وارتفاع الأصوات ، وربما جرى أثناء ذلك إنشاد شعر ، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد ، وجعلها كذلك ، ليتخلَّص المسجد لذكر الله – تعالى – وما يحسن من القول ، و يتنزَّهَ من اللغط ، وإنشاد الشعر ، ورفع الصوت فيه ، ولم يُرِدْ أن ذلك محرمٌ فيه ، وإنما ذلك على معنى الكراهية ، وتنزيه المساجد ، لا سيما مسجدُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فيجب له من التعظيم ، والتنزيه ما لا يجب لغيره ] .
3 – قياس الأولى : فإذا كانت مثل هذه الأشياء منهيٌ عنها خارج المسجد ، ففيه أولى ، وذلك لحرمة المكان .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في مجموع الفتاوى ( 22/200 ) : [ وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسنٌ ، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً ، وكذلك المكروه ، ويكره فيه فضول المباح ] .
4 – قياس الكلام المحرَّم على أكل البصل ، والثوم ، والكراث ، قال القرطبي : [ قال العلماء : وإذا كانت العلَّة في إخراجه من المسجد أنَّه يُتَأَذَّى به ، ففي القياس : أنَّ كلَّ من تأذى به جيرانه في المسجد ، بأن يكون ذَرِبَ اللسان سفيهاً عليهم ... وكلُّ مايتأذى به الناس كان لهم إخراجه ، ماكانت العلة موجودةً فيه حتى تزول ] .
وقال أيضاً : [ قال أبو عمر بن عبد البر : وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام – رحمه الله – أفتى في رجلٍ شكاه جيرانه ، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ، ويده ، فَشُوُوِرَ فيه ؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه ، وألا يشهد معهم الصلاة ! إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه .
فذاكرته يوماً أمره ، وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك ، وراجعته فيه القول ، فاستدل بحديث الثوم ، وقال : هو عندي أكثرُ أذىً من أكل الثوم ، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد ] .( 3 )
الحواشي :
1 - إلى هنا انتهى كلام الحسن ، وما بعده من كلام البغوي – رحمهما الله - ، وانظر تفسير عبد الرزاق ( 2/442 ) .
2- أخرجه مالك بلاغاً ( 1/175 ) ، ووصله البيهقي في سننه ( 10/103 ) من طريق الإمام مالك ، قال الألباني – رحمه الله – في تعليقه على إصلاح المساجد ( 112 ) : رجاله ثقات ، ولكنه منقطع بين سالم ، وجده عمر . ا هـ .
قلت : وقد ذكر ابن عبد البر في الإستذكار ( 6/355 ) أن هذا الحديث في رواية القعنبي ، ومطرف ، وأبي مصعب موصولاً ، هكذا : مالك ، عن أبي النضر ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر بن الخطاب ... ، ثم ذكر أن طائفةً رووه كما رواه يحيى ، والله أعلم .
3 - الجامع لأحكام القرآن ( 12/267 ) وما بعدها .
المسألة الثانية : حكم الكلام المشروع في المسجد :
وهذا شامل لقراءة القرآن ، والصلاة ، وتعليم العلم ، والمواعظ ، ونحو ذلك .
فيمكن أن نجعل هذه المسألة في مبحثين :
المبحث الأول : إذا كان الكلام المشروع بدون رفعٍ للصوت ، ولا إزعاجٍ للآخرين ، فهذا مما لا خلاف في جوازه ؛ حيث إن المساجد لم تبن إلا لعمارتها بالذكر ، وقراءة القرآن ، والصلاة ، كما جاء في حديث الأعرابي2 .
المبحث الثاني : أن يكون برفع الصوت ، وقد يحصل منه إزعاجٌ للآخرين ، فلا يخلو من حالتين :
الأولى : أن يكون مما أمر الله – سبحانه - ، وحثَّ رسوله – صلى الله عليه وسلم – على رفع الصوت فيه ، كالقراءة في الصلاة الجهرية ، والخطب ... فلم أجد – حسب بحثي – مَنْ مَنَعَ رفع الصوت ، ولو وجد لكانت ظاهر النصوص تدفع كلامه 3 .
الثانية : وهي ماعدا الحالة الأولى ، كالمواعظ ، والذكر ، وقراءة القرآن ، ونحوها ؛ فللعلماء في ذلك قولان :
الأول : المنع منه ، سواءً منعَ كراهةٍ ، أو تحريم 1 .
ومما يمكن أن يستدل لهم به :
1 – عن عبد الله بن عمر ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكف ، وخطب الناس ، فقال : " أمَا إنَّ أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه ، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه ، ولا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقراءة في الصلاة " 2.
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم – نهى الصحابة من جهر بعضهم على بعضٍ بالقراءة ، مع أن قراءة القرآن من الأمور المشروعة في المسجد .
* يرد عليه : أن هذا خاص بالجهر في الصلاة .
2 – عن واثلة بن الأسقع ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " جنبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وشراركم ، وبَيْعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم ، وسلَّ سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمِّرُوْهَا في الجمع " 3 .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث ، نهى عن رفع الصوت .
* يرد عليه : أن الحديث ضعيف .
3 – قال صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " 4 .
وجه الاستدلال : أن في رفع الصوت سواءً بالقراءة ، أو بالعلم ضرراً على من بجواره ، والضرر مدفوعٌ كما بيَّن ذلك هذا الحديث ، وما رأيك بمسجدٍ كلُّ من فيه يجهر بصوته ، فماذا عساه أن يكون ؟! .
4 – عن السائب بن يزيد قال : كنت قائماً في المسجد ، فحصبني رجلٌ ، فنظرتُ ، فإذا عمر بن الخطاب، فقال اذهب ، فأتني بهذين ، فجئته بهما ، فقال : من أنتما ، أو من أين أنتما ؟ قالا : من الطائف قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم ! 1.
وجه الاستدلال : أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – زجر هذين الرجلين ؛ بل هَمَّ أن يوجعهما ضرباً ، مما يدل على أنهما فعلا مخالفةً شرعية .
قال ابن حجر في الفتح ( 1/668 ) [ قوله " لأوجعتكما " زاد الإسماعيلي " جلداً " ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع ؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي ] .
* يرد عليه : أن قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : ( ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) يظهر منه أن ذلك خاصٌ بمسجدِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لوجوده – صلى الله عليه وسلم - ، وحرمته ميتاً ، كحرمته حياً ، وقد قال بهذا بعض أهل العلم2 ؛
ومما يؤكد هذا – أيضاً – ما ورد في مصنف عبد الرزاق ( 1711 ) عن نافعٍ قال : كان عمر بن الخطاب يقول : لا تكثروا اللغط ، يعني في المسجد ، قال : فدخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما ، فبادراه ، فأدرك أحدهما ، فضربه ، وقال : ممن أنت ؟ قال : من ثقيف ، قال : إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت .
* يجاب عنه : بما قاله الحافظ ابن حجر ( 1/668 ) [ أن هذا الأثر فيه انقطاع ، لأن نافعاً لم يدرك ذلك الزمن ] .
* يجاب عنه : بأنَّ نافعاً أخذه من ابن عمر ، بدليل ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ( ) ، وأيضاً بالرواية الأخرى عند الصنعاني ( 1712 ) .
وحتى لو لم ترد هذه الروايات ، فأثر السائب الذي في البخاري كافٍ في الاستدلال .
5 – أثر عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه أنكر على جماعةٍ في المسجد ، يهللون ، ويكبرون ، ويسبحون جهراً ، وقال لهم : ما أراكم إلا مبتدعين3 .
* يرد عليه : أن إنكار بن مسعود – رضي الله عنه – عليهم ، لم يكن على جهرهم ، وإنما على الصفة التي كانوا يتعبدون بها ، بدليل : أنه ذكر أن فعلهم هذا بدعة ، ثم ليس هناك ما يدل على كون ذلك جهراً .
القول الثاني : جواز ذلك ، ويستدل لهم بالآتي :
1 – حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدْ ديناً كان له عليه في المسجد ، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وهو في بيته ؛ حتى كشف سِجْفَ حجرته ، فنادى : " ياكعب " قال : لبيك ، يارسول الله . قال : " ضع من دينك هذا " وأومأ إليه ، أي الشطر . قال : قد فعلت يارسول الله . قال : " قم فاقضه " 1 .
وجه الاستدلال : قال ابن حجر في الفتح ( 1/658 ) : [ قال المهلب : لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ولبيَّن لهما ] .
* يرد عليه : قال ابن حجر ( 1/658 ) : [ قلت : ولمن منع أن يقول : لعله تقدَّم نهيه عن ذلك ، فاكتفى به ، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك ، بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت ] .
* يجاب عنه : ينبغي أولاً : إثبات أن النهي عن رفع الصوت كان قبل هذه الحادثة .
* ثم ثانياً : ما الدليل على النهي عن رفع الصوت ؟ .
فإن قيل : قد تقدمت أحاديث النهي عن رفع الصوت .
قلنا : لا تخلو أدلتكم من ثلاث حالات :
1 – إما حديثٌ ضعيف ، لا يصلح الاحتجاج به .
2 – وإما مالا دلالة فيه ، أو فيه دلالةُ عامة ، يمكن أن تخص .
3 – وإما دليلٌ صحيحٌ ، معارضُ بأدلةٍ أخرى مثله ، فَيُجْمَعُ بينها.
* يرد عليه أيضاً : أن قصة كعب ليست في الأمور الشرعية .
يجاب عنه : أنَّ هذا إذا كان جائزاً في الأمور الدنيوية ، فالأمور الشرعية أولى بالجواز .
2 – حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ما كنَّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا بالتكبير2 .
وجه الاستدلال : أنَّ هذا ذكر مشروعٌ ورد رفع الصوت به في المسجد ، مع أنَّ المسجد بعد انقضاء الفريضة لا يخلوا ممن يقضي ما فاته ، ففيه تشويش عليهم .
* يرد عليه :
1 – أن الخلاف قائمٌ في جواز رفع الصوت بالذكر ، فلا يصح الاستدلال في موضعِ نزاعٍ أصلاً .
2 – حَمَلَه بعضهم على أنَّ هذا كان في أول الأمر ، لأجل تعليم صفة الذكر ، ولم يداوموا عليه .
* ويجاب عن ذلك :
1 – أن الذي ترجح عندنا هو مشروعية الجهر بالذكر ، فالحق واحد1.
2 – أما الاعتراض الثاني ، فيقلب عليهم ، بأن يقال : إذا كان هذا الفعل مشروعاً في مدَّةٍ معينةٍ ، مع أن فيه منكراً آخر – على حدِّ زعمهم – وهو رفع الصوت في المسجد ، والتشويش على المصلين ، دلَّ على أنَّ ما فيه مصلحةٌ راجحةٌ – مما هو مشروع – يجوز فيه رفع الصوت ، وهذا هو الراجح .
الراجح : التفريق بين ماله مصلحةٌ راجحة ، وبين ما مفسدته راجحة ، فالجواز في الأول ، وتتوجه الكراهة في الثاني ، إن لم يصل إلى التحريم ، وبهذا تجتمع الأدلة ، والله أعلم2 .
قال ابن حجر في الفتح ( 1/668 ) : [ أشار بالترجمة 3 إلى الخلاف في ذلك ... وساق البخاري في الباب حديث عمر الدال على المنع ، وحديث كعب الدال على عدمه ، إشارةً منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تلجئ الضرورة إليه ] .
قال ابن عَلَّان في الفتوحات ( 2/59 ) :[ نقل ابن العماد عن المصنفلمصنف4 أنه أفتى في قوم يجهرون بالقراءة ، وعندهم قومٌ يصلون ، ويتشوشون بذلك . بأن المستمعين إذا كانوا أكثر من المصلين لم يحرم ، أو بالعكس حرم ؛ نظراً لكثرة المصلحة ، وقِلَّتها .
ثم نَظَّرَ 1فيه ، وبحث المنع من الجهر بحضرة المصلي مطلقاً ، قال : لأن المسجد وقفٌ على المصلين ، أي أصالةً ، لا على الوعّاظ ، والقراء . ا هـ .
قال في شرح العُباب : والذي في فتاوى النووي : ( كُرِهَ ) بدل ( حَرُمَ ) ، وهو ما صرَّح به في المجموع وغيره ، وقد يحمل بعد القول بالكراهة على ما إذا خفَّ الضرر ، وبالحرمة على ما إذا اشتدَّ ، كما هو معلومٌ من تحريم الإضرار ، وإن أمكن توجيه إطلاق الكراهة بأن لنحو المصلي مندوحةٌ من الصلاة في ذلك المحل ، أو في ذلك الزمن ] 2 .
المسألة الثالثة : حكم الكلام المباح في المسجد :
وذلك كالكلام في أمور الدنيا ، وإنشاد الشعر ، ونحو ذلك .
ويمكن أن نقسم هذه المسألة إلى مبحثين :
المبحث الأول : إذا كان الكلام المباح بدون تشويش على المتعبدين ، فاختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن الكلام في أمور الدنيا ممنوع ، إما كراهةً ، أو تحريماً ، واستدلوا بما يلي :
1 – عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حِلَقَاً حلقاً ، إمامهم الدنيا ، فلا تجالسوهم ، فإنه ليس لله فيهم حاجة " أخرجه الطبراني ، وحسنه الألباني – رحمه الله – كما في السلسلة الصحيحة ( 1163 ) .
وجه الاستدلال : أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذم هؤلاء ، وأخبر أن سبب ذمهم جعل الدنيا حديثهم .
* يرد عليه : أنَّ الحديث ضعيفٌ ، لا يصح .
فهذا الحديث جاء عن : عبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك – رضي الله عنهما – مرفوعاً ،
وروي نحوه موقوفاً عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - ،
وروي نحوه عن الحسن البصري مرسلاً .
فأما رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – : فأخرجها الطبراني في الكبير ( 10 / 198 برقم 10452 ) ، وأبو إسحاق المزكي في الفوائد المنتخبة ( 1 / 49 / 2 ) – أفاده الألباني – ، وابن عدي في الكامل ( 2 / 59 ) ، والداني في السنن الواردة في الفتن ( 3 / 665 ) ، وابن أبي عاصم في الزهد ( 1 / 142 ) ، وأخرجه بنحوه أبو نعيم في الحلية ( 4 / 116 ) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ( 1 / 412 ) كلهم من طريق بزيع أبي الخليل الخصاف ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً .
قلت :
بزيع أبي الخليل الخصاف :
قال أبو حاتم ( الجرح والتعديل 2 / 421 ) : ذاهب الحديث .
قال ابن حبان في " المجروحين " ( 1 / 227 ) : ... يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات ، كأنه المتعمد لها .
وقال الدار قطني في الضعفاء المتروكين ( ص 69 ) : بزيع بن حسان أبو الخليل : متروك ، كوفي عن الأعمش وهشام بن عروة ، بواطيل .
وقال الحاكم في المدخل إلى الصحيح ( 1 / 172 ) : روى عن هشام بن عروة ومحمد بن واسع والأعمش أحاديث موضوعة ، يرويها عنه الثقات مثل / عبد الرحمن بن المبارك وغيره .
وقال الذهبي في الميزان ( 1 / 306 ) : متهم ، وقال في المغني ( 1 / 157 ) : ترك حديثه ، واتهم .
والخلاصة : أنه متروك ؛ بل متهم بالوضع .
الأعمش : سليمان بن مهران الأسدي ، أبو محمد الكوفي ، الإمام الحافظ .
وثقته وإمامته معروفة ؛ لكن ذكر الأئمة عنه أنه كان يدلس ، وقد لخص الذهبي في الميزان ( 2 / 224 ) كيفية التعامل مع رواياته ، فقال : أحد الأئمة الثقات ... مانقموا عليه إلا التدليس ، وقال : وهو يدلس ، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به ؛ فمتى قال : ( حدثنا ) فلا كلام ، ومتى قال : ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم : كإبراهيم ، و ابن أبي وائل ، وأبي صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال .
شقيق بن سلمة : أبو وائل الأسدي ( أسد خزيمة ) ، ثقة مخضرم .
وقال عمرو بن مرة : قلت لأبي عبيدة : مَنْ أعلم أهل الكوفة بحديث عبد الله ؟ قال : أبو وائل .
ورواية الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود خرج لها الجماعة .
قلت : هذا إسناد ضعيف جداً ، وذلك : لحال يزيد بن حسان الخصاف ، فهو متروك ؛ بل ومتهم .
قال أبو نعيم في الحلية : غريب من حديث الأعمش ، تفرد به ابن صدران عن بزيغ ، وبزيغ الخصاف البصري ، واهي الحديث .
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية : هذا حديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمتهم به بزيع .
وقال الدارقطني – كما نقل ذلك ابن الجوزي – : لم يحدث به غيره ، قال : وبزيع متروك .
قال الهيثمي في المجمع ( 2 / 24 ) : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه بزيع أبو الخليل ، ونسب إلى الوضع .
قال الألباني في السلسلة الصحيحة ( 3 / 152 / ح 1163 ) : قلت : بزيع متروك ... .
وقد تقدم نقل ما قيل فيه ، وفي روايته عن الثقات ؛ بل نص بعض الأئمة على بطلان روايته عن الأعمش .
ولكن بزيعاً هذا قد توبع ، فقد تابعه عيسى بن يونس ، أخرجها ابن حبان في صحيحه ( 15 / 162 / ح 6761 ) قال : أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوهاب النصري ، حدثنا أبو التقى ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش به .
قلت :
الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان : أبو علي .
وقال الدار قطني عنه – كما في سؤالات السهمي – ( 276 ) ثقة .
قال عنه الذهبي في السير ( 14 / 286 ) : الحافظ المسند الثقة ... رحَّال مصنِّف .
عبد الصمد بن عبد الوهاب : هو الحضرمي ، النصري ، الحمصي .
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 6 / 52 ) : صدوق .
قال النسائي – كما في تهذيب الكمال 18 / 103 – : لا بأس به .
قال ابن حجر في التهذيب ( 6 / 328 ) : و ذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج حديثه في صحيحه .
قال ابن حجر في التقريب ( 4109 ) : صدوق .
أبو التقي : هو عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي ، الحمصي ؛ كما بين ذلك ابن حبان في صحيحه بعد روايته للحديث .
قال ابن أبي حاتم ( 6 / 8 ) : سألت محمد بن عوف حمصي عنه ، فقال : كان شيخاً ضريراً لا يحفظ ، وكنا نكتب نسخة عند إسحاق ( ابن زبريق ) لابن سالم ، فنحمله إليه ، ونلقنه فكان لا يحفظ الإسناد ، ويحفظ بعض المتن ، فيحدثنا ، وإنما حملنا الكتاب عنه شهوة الحديث .
وكان إذا حدث عنه محمد بن عوف قال : وجدت في كتاب ابن سالم ، حدثنا به أبو تقي .
وقال ابن أبي حاتم – أيضاً – : سمعت أبي ذكر أبو تقي عبد الحميد بن إبراهيم ، فقال : كان في بعض قرى حمص ، فلم أخرج إليه ، وكان ذكر أنه سمع كتب عبدالله بن سالم عن الزبيدي إلا أنه ذهبت كتبه ، فقال : لا أحفظها ، فأرادوا أن يعرضوا عليه ، فقال : لا أحفظ ، فلم يزالوا به حتى لان ، ثم قدمت حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة ، فإذا قوم يروون عنه هذا الكتاب وقالوا : اعرض عليه كتاب ابن زبريق ولقنوه ، فحدثهم بهذا ، وليس هذا عندي بشيء ، رجل لا يحفظ ، وليس عنده كتب .
قال عنه النسائي : ليس بشيء ، وقال مرة : ليس بثقة ( تهذيب الكمال ( 16 / 408 ) .
ولم أجد أحداً وثقه إلا ابن حبان في صحيحه ( 15 / 164 ) ، فقد وثقه في صحيحه بعد روايته لهذا الحديث ، وذكره في الثقات ( 8 / 400 ) .
وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء ( 1 / 587 ) رقم ( 3480 ) .
وقال ابن حجر في التقريب ( 3775 ) : صدوق ، إلا أنه ذهبت كتبه فساء حفظه .
والخلاصة : أنه لا يحتج به ، فإنه لم يوثقه – حسب إطلاعي – إلا ابن حبان ، والأئمة على تضعيفه ، وهذا محمد بن عوف وهو بلديه وأعرف الناس به ، قال ما تقدم .
عيسى بن يونس : هو ابن أبي إسحاق السبيعي ، أبو عمر ، ويقال : أبو محمد الكوفي ، ثقة بالاتفاق ، وقد أطال المزي في تهذيب الكمال في ترجمته ( 23 / 62 ) .
وقال محمود بن غيلان ، عن محمد بن عبيد الطنافسي : رأيت أصحاب الأعمش الذين لا يفارقونه : عيسى بن يونس ... .
وليس هو المقدم بإطلاق فيه ، لكنه من خاصة تلاميذه ، وقد أخرج له الجماعة .
وأما حديث أنس بن مالك ؛ فقد جاء عنه من طريقين :
الأول : ما رواه أبو عبد الله الفلاكي في " الفوائد " ( 88 / 1 ) – أفاده الألباني – قال : أخبرنا أحمد بن صالح المقري ، ثنا محمد بن عبيد ، ثنا عصام ، ثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أنس مرفوعاً بلفظ : " يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم " .
قلت :
أحمد بن صالح المقري : لم أعرفه ، ولعله : أحمد بن صالح بن عمر ، أبو بكر المقرئ ، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد ( 4 / 426 دار الكتب العلمية ) قال : انتقل إلى الشام ، ونزل طرابلس ، وحدَّث بها ، وبالرملة عن جعفر بن عيسى الناقد ، ومحمد بن الحكم العتكي ، وروى عن الغرباء ، وذكر ابن الثلاج أنه سمع منه ، ثم روى له حديثاً من طريقه .
محمد بن عبد : هو ابن عامر السمرقندي ، أبو بكر التميمي .
قال الخطيب في تاريخ بغداد ( 3 / 190 دار الكتب العلمية ) : قدم بغداد ، وحدَّث بها وبغيرها عن يحيى بن يحيى النيسابوري ... وعصام ... أحاديث منكرة وباطلة .
وقد روى له الخطيب بعض الأحاديث المستنكرة ، وكان يتهمه بوضع أسانيدها ، وقال في أحدها : وله أحاديث كثيرة تشابه ماذكرناه ، وكلها تدل على سوء حاله وسقوط رواياته .
وروى الخطيب ( 3 / 193 ) عن أبي سعيد بن يونس أنه قال : محمد بن عبد بن عامر بن مرداس بن هارون بن موسى السفدي ، يكنى أبا بكر من أهل سمرقند ، لم يكن بالمحمود في الحديث .
وروى ( 3 / 194 ) عن أبي بكر محمد بن عمر الجعابي أنه قال : كانوا يذمونه في سماعه .
وقال قرأت في كتاب أبي بكر البرقاني بخطه ، قال علي بن عمر الدار قطني :لم يكن مرضياً في الحديث .
وقال محمد بن أبي الفوارس : قرأت على أبي الحسن الدارقطني ، قال : محمد بن عبد بن عامر السمرقندي يكذب ويضع .
وروى الخطيب ( 3 / 194 ) عن أبي سعيد عبدالرحمن بن محمد الإدريسي أنه قال : ولم أر لأهل بلده عنه شيئاً ، يحدث بالمناكير على الثقات ، يتهم بالكذب ، وكأنه كان يسرق الأحاديث والإفرادات ويحدث بها ، ويتابع الضعفاء والكذابين في رواياتهم عن الثقات بالأباطيل .
وقال الذهبي في الميزان ( 3 / 633 ) : معروف بوضع الحديث ، وضعفه في المغني ( 2/343 ) بالوضع أيضاً .
عصام : هو ابن يوسف البلخي ، يروي عن محمد بن عبد ، نبه على ذلك الخطيب في ترجمة محمد بن عبد .
قال ابن حبان في الثقات ( 8 / 521 ) : وكان صاحب حديث ، ثبتاً في الرواية ، ربما أخطأ .
وقال الخليلي في الإرشاد ( 3 / 937 ) : صدوق .
وقال ابن عدي في الكامل ( 5 / 371 ) : روى أحاديث لا يتابع عليها .
و ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 7 / 26 ) ولم يذكر فيه شيئاً .
ونقل ابن حجر في لسان الميزان ( 5 / 436 ) أن ابن سعد قال : كان عندهم ضعيفاً في الحديث .
قال ابن عدي في الكامل ( 5 / 371 ) : وقد روى عصام هذا عن الثوري ، وعن غيره أحاديث لا يتابع عليها .
سفيان : هو ابن سعيد بن مسروق الثوري ، أبو عبد الله الكوفي ، ثقة حافظ فقيه عابد ، إمام حجة .
أبو حازم : سلمة بن دينار ، فإني لم أجد من روى عنه الثوري ممن يكنى أبا حازم إلا سلمة بن دينار ، وقد أخرج حديث سفيان عن أبي حازم الجماعة ، وهو ثقة عابد ؛ كما في التقريب ( 2502 ) .
قال الألباني : وهذا إسنادٌ واهٍ جداً ...
قلت : وهو كما قال – رحمه الله – ، وذلك لما يلي :
1 – أحمد بن صالح المقري ، إن كان هو من ذكرت ، فإنني لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو مجهول الحال ، و إلا فمجهول العين .
2 – محمد بن عبد ، وقد تقدم ما فيه ، وأنه وضاع كذاب .
3 – عصام بن يوسف البلخي ، وفيه مقال ، وقد ذكر ابن عدي أنه يروي عن الثوري وغيره أحاديث لا يتابع عليها ؛ وهذا منها وذلك لأن المتابعة المذكورة بعد قليل لا تصح .
الثانية : ما أخرجه الحاكم في مستدركه ( 5 / 461 رقم 7986 ط . دار المعرفة : عبد السلام علوش ) ، قال : حدثني : علي بن بندار الزاهد ، حدثنا محمد بن المسيب ، حدثني أحمد بن بكر البالسي ، ثنا زيد بن الحباب ، ثنا سفيان الثوري ، عن عون بن أبي ححيفة ، عن الحسن بن أبي الحسن ، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً : " يأتي الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم " .
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه !
وسكت عنه الذهبي .
قلت :
علي بن بندار الزاهد : هو الصيرفي ، وهو صوفي عابد ؛ كما قال الذهبي في السير ( 16 / 109 ) ، ولم يذكر فيه سوى قوله : روى عنه الحاكم ، ووثقه .
محمد بن المسيب : هو النيسابوري ، ثم الأرغياني ، الإسفنجي ، العابد .
قال الذهبي في السير ( 14 / 422 ) : الحافظ ، الإمام ، شيخ الإسلام ، أبو عبد الله .
وقال أيضاً : وصنف التصانيف الكبار ، وكان ممن برز في العلم والعمل .
وقد روى عنه ابن خزيمة ، والحاكم .
أحمد بن بكر البالسي : أبو سعيد .
قال الدار قطني كما في اللسان ( 1 / 411 ) : غيره أثبت منه ، قال ابن حجر : وأورد له في غرائب حديثاً في سنده خطأ ، وقال : أحمد بن بكر ضعيف .
وقال ابن حبان ( 8 / 51 ) : كان يخطئ .
وقال ابن عدي في الكامل ( 1 / 188 ) : روى مناكير عن الثقات .
وقال أبو الفتح الأزدي – كما في اللسان ( 1 / 411 ) – : كان يضع الحديث .
وذكره الذهبي في المغني ( 1 / 60 ) .
زيد بن الحباب : أبو الحسن الكوفي : ثقة ، مكثر ، لكن في روايته عن الثوري بعض الشيء .
فقد قال ابن معين : كان يقلب حديث الثوري ، ولم يكن به بأس.
وقد سبر ابن عدي رواياته ، ثم قال : وزيد بن الحباب له حديث كثير ، وهو من أثبات مشايخ الكوفة ، ممن لايشك في صدقه ، والذي قاله ابن معين : أن أحاديثه عن الثوري مقلوبة ، إنما له عن الثوري أحاديث تشبه بعض تلك الأحاديث ، يستغرب بذلك الإسناد ، وبعضه يرفعه ولا يرفعه غيره ، والباقي عن الثوري أحاديث تشبه بعض تلك الأحاديث يستغرب بذلك الإسناد وبعض يرفعه ولايرفعه غيره ، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها ( 3/210 ) .
فلذلك قال ابن حجر في التقريب ( 2136 ) : وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري .
سفيان : تقدم .
عون بن أبي جحيفة : وهو وهب بن عبد الله السُّوائي الكوفي .
قال المزي في التهذيب ( 22 / 448 ) قال : إسحاق بن منصور : عن يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي : ثقة .
أخرج له الجماعة ، وذكره ابن حبان في ثقاته ( 5 / 263 ) .
وقال ابن حجر في التقريب ( 5254 ) : ثقة .
الحسن بن أبي الحسن : هو البصري .
و قد سمع من أنس ، وقد خرج روايته عن أنس الجماعة – كما في تهذيب الكمال ( 6 / 90 ) – .
قلت : هذا الإسناد تالف ، وذلك لما يلي :
1 – أحمد بن بكر البالسي : ضعيف ، يروي المناكير .
2 – زيد بن الحباب : ثقة ، يخطئ في روايته عن الثوري ، وهو هنا يروي عنه .
وأما أثر عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – موقوفاً عليه : فقد ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 3 / 379 ) ، ولم أجده مسنداً .
وأما ما جاء عن الحسن البصري ، فقد جاء عنه من وجهين :
الوجه الأول : مرسلاً : أخرجه البيهقي في الشعب ( 4 / 387 / رقم 2701ط الجديدة ) ( 6 / 220 / رقم 2701 ط القديمة ) قال : أخبرنا أبو طاهر الفقيه ، حدثنا أبو بكر القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن يوسف ، قال : أخبرنا سفيان عن بعض أصحابه عن الحسن قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " يأتي على الناس زمان يكون حديثه في مساجدهم في أمر دنياهم ، فلا تجالسوهم ، فليس لله فيهم حاجة " .
قال البيهقي : هكذا جاء مرسلاً .
قال المحقق : إسناده فيه رجل مبهم لم يسمَّ ، والحديث مرسل .
قلت :
وفيه – أيضاً – محمد بن يوسف ، هو : الضبي مولاهم ، الفريابي ،
وقال ابن أبي حاتم ( الجرح 8 / 119 ) : سألت عن الفريابي ، فقال : صدوق ثقة .
قال عنه النسائي – كما في تهذيب الكمال 27 / 57 – ثقة .
قال العجلي في الثقات له ( 2 / 257 ) : الفريابي ثقة ... كانت سنته كوفية .
وقال – أيضاً – : وقال لي بعض البغداديين : أخطأ محمد بن يوسف في خمسين ومائة حديث من حديث سفيان .
وقال ابن عدي في الكامل ( 6 / 232 ) : والفريابي له عن الثوري أفرادات ، وله حديث كثير عن الثوري ، وقد قُدِّم الفريابي في سفيان الثوري على جماعة مثل : عبد الرزاق ونظرائه ، وقالوا : الفريابي أعلم بالثوري منهم ... .
ثم قال : الفريابي فيما يتبين هو : صدوق ، لا بأس به .
قال ابن حجر في التقريب ( 6455 ) : ثقة فاضل ، يقال : أخطأ في شيءٍ من حديث سفيان ، وهو مقدم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق .
الوجه الثاني : من كلامه : أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 13 / 528 / 17159 ) قال : حدثنا معاوية بن هشام ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن الحسن قال : يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم أمر دنياهم ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم .
وأخرجه أبو بكر المروزي في الورع ( ص 62 ) قال : عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قال : يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم ، فليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم .
قلت :
معاوية بن هشام : هو القصَّار ، أبو الحسن الكوفي .
قال أبو حاتم ( الجرح 8 / 385 ) : قلت لعلي بن المديني : فمعاوية بن هشام ، وقبيصة ، والفريابي ؟ قال : متقاربين .
وقال الإمام أحمد – كما في تهذيب التهذيب 10 / 218 – : هو كثير الخطأ .
وقال ابن عدي في الكامل ( 6 / 408 ) : وقد أغرب عن الثوري بأشياء ، وأرجو أنه لا بأس به .
وقال ابن حجر في التقريب ( 6819 ) : صدوق ، له أوهام .
وباقي رجال الإسناد : تقدمت ترجمتهم .
الحكم على الحديث :
هذا الحديث صححه ابن حبان ، والألباني ، والحاكم ،
وضعفه الدارقطني ، وأبو نعيم ، وابن الجوزي ، والهيثمي ،
وقد سألت شيخنا الشيخ صالح العصيمي – حفظه الله – عن هذا الحديث : فضعفه .
وقد سألت الشيخ عبد الله العبيد – حفظه الله – : فذكر لي أنه أخرجه ابن حبان ، وقال : لعل إسناده نظيف .
وقد سألت الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد – حفظه الله – فقال : لا يصح .
قلت : فالحديث ضعيفٌ مرفوعاً ، والله أعلم .
* ويرد عليه أيضاً : أنَّ هذا الحديث مُعارَضٌ بأحاديث أصحَّ منه ؛ بل وفي الصحيحين ، وسيأتي ذكرها .
* ويرد عليه أيضاً : أنه قال : " إمامهم الدنيا " ، فالحديث العارِض ، أو غير الكثير ، ليس داخلاً في النهي .
2 – ما جاء من الأحاديث في النهي عن إنشاد الشعر في المسجد ، ومن هذه الأحاديث :
أ – عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد . 3
ب – عن حكيم بن حزام ، بنحو حديث عمرو بن شعيب.4
ج – روى أبو القاسم البغوي في (( معجمه )) من طريق ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عقبة ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام ، عن أبيه ، قال : أتى ابن الحُمَامة السلمي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في المسجد ، فقال : إني أثنيت على ربي – تعالى - ، ومدحتك قال : أمسك عليه ، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فخرج به من المسجد ، فقال : ما أثنيت على ربك فهاته ، وأمَّا مدحي فدعه عنك ، فأنشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً ، فأمره أن يعطيه شيئاً ، ثم أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الناس ، فوضع يده على حائط المسجد ، فمسح به وجهه وذراعيه ، ثم دخل1 .
د – عن ثوبان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد ، فقولوا : فضَّ الله فاك ، ثلاث مرات " . 2
هـ - ما جاء عن بعض الصحابة من كراهة ذلك ، انظر فتح الباري لابن رجب ( 2/513 ) ، وقصة عمر مع حسَّان ستأتي – إن شاء الله - .
* يرد عليه : أن هذه الأحاديث والآثار ، معارضة بما ثبت في الصحيحين من إنشاد حسان للشعر ، بل وبأمرٍ من الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك إنشاد كعب بن زهير3 ؛ فإما أن نعطل بعض النصوص ، أو نجمع بينها ، ولا شك أن الثاني هو الذي عليه المحققين من الأئمة ، فنقول :
أن الذي نهى عنه – صلى الله عليه وسلم - ، وكرهه السلف ما كان من الشعر الباطل والماجن ، وما سوى ذلك ، فلا بأس به .
أو يقال : المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد ، حتى يتشاغل به من فيه.
قال القرطبي في الجامع ( 12/271 ) : [ أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك ،
فمن مانع مطلقاً ،
ومن ميجز مطلقاً ؛
والأولى التفصيل ، وهو : أن يُنْظَرَ إلى الشعر فإنْ كان مما يقتضي الثناء على الله – عز وجل - أو على رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، أو الذب عنهما كما كان شعر حسان ، أو يتضمن الحضَّ على الخير ، والوعظ ، والزهد في الدنيا ، والتقلل منها ، فهو حسنٌ في المساجد وغيرها ...
وما لم يكن كذلك لم يجز ؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش ، والكذب ، والتزين بالباطل ، ولو سلم من ذلك ، فأقل ما فيه اللغو والهَذّر ، والمساجد منزهةٌ عن ذلك ، لقوله تعالى : " في بيوتٍ أذن الله أن ترفع " ، وقد يجوز إنشاده في المساجد ( !! ) كقول القائل : ... ، وقول الآخر :
إذا سقط السماء بأرض قومٍ * رعيناه ، وإن كانوا غِضَابا .
فهذا النوع ، وإن لم يكن فيه حَمْدٌ ، ولا ثناء يجوز ( ؟! ) ، لأنه خالٍ من الفواحش والكذب ] .2
وقد رجح ابن رجب في شرح البخاري ، أحاديث الجواز ؛ حيث قال ( 2/513 ) : [ وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد ... والصحيح في الجواب : أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة ، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها ، وصحتها ] . ا هـ ، وانظر الفتح لابن حجر ( 1/653 ) .
3 – أن المساجد لم تبنَ لأحاديث الدنيا ، وإنما هي لقراءة القرآن ، والذكر ، والصلاة ، كما جاء في حديث الأعرابي .3
* يرد عليه : ما جاء في أحاديث كثيرة ، من – مثلاً – إنشاد الشعر ، والتحدث في أمور الجاهلية ، والنوم فيه ، ولعب الحبشة ، وقضاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين كعب ، وابن أبي حَدْرَدْ ، وربط الأسير المشرك فيه ، ونوم أهل الصفَّة فيه ؛ بل وأجاز بعض أهل العلم الحدث في المسجد إذا لم يكن هناك تلويثٌ ، ولا إضرارٌ بمن حوله 4 فهل هذه الأشياء ، وغيرها مما بنيت له المساجد ؟!
فالأولى : حمل كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث ، على التوجيه والإرشاد إلى أصل الحكمة التي بنيت من أجلها المساجد ، لا على قصرها على ما ذكر .
القول الثاني : أن الكلام المباح في المسجد ، لا بأس به ، إذا لم يكن هناك تشويشٌ على المتعبدين ، وذلك لما يلي :
1 – حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يقوم من مصلاه الذي صلَّى فيه الصبح ، حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام ، قال : وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم 1.
* يرد عليه : أن كلامهم في أمور الجاهلية كان لتذكر نعمة الإسلام ، وما امتن الله عليهم به .
* يجاب عنه : أن هذا غير مسلم ، لأمور :
1 – أن هذا مخالفٌ لفهم أهل العلم ، قال القاضي عياض في إكمال المعلم ( 2/646 ) : [ قوله : (( وكانوا يتحدثون ، فيأخذون في أمر الجاهلية )) دليل على جواز التحدث بأخبار الزمان ، وأمور الأمم ... 2 ] .
قال النووي – رحمه الله – في المجموع ( 2/204 ) : [ يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد ، وبأمور الدنيا ، وغيرها من المباحات ، وإن حصل فيه ضحكٌ ونحوه ، ما دام مباحاً ، لحديث جابر بن سمرة ... ].
2 – أنَّ هذا لو كان صحيحاً ، لقال : فيحمدون الله على ما هداهم ، ويشكرونه ، لا أنهم يتضاحكون .
3 – إنشاد حسان بن ثابت – رضي الله عنه – الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإقراره – صلى الله عليه وسلم – له 3 .
* يرد عليه : أن هذا ليس من أمور الدنيا ، أو المباحات ؛ بل مما يتقرب به إلى الله ، لما فيه من الذب عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، والرد على المشركين ، والمنافقين .
* يجاب عنه : بأن كعب بن زهير – رضي الله عنه – كما تقدم ، أنشد شعراً عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –وفيه ذبٌ عنه ، وراجع كلام السفاريني في غذاء الألباب ( 1/184 ) .
4 – عن أنس – رضي الله عنه – قال : وجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد معه ناس ، فقمت ، فقال لي : " أرسلك أبو طلحة " ؟ قلت : نعم فقال : " لطعام " ؟ فقلت : نعم ، فقال لمن معه : " قوموا " ، فانطلق ، وانطلقت بين أيديهم4.
وجه الاستدلال : قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 1/616 ) : [ والغرض منه : أنَّ مثل ذلك من الأمور المباحة ، ليس مما يمنع في المساجد ] .
5 – تفسير الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد صلاة الصبح ، للرؤى5.
وجه الاستدلال : أن تفسير الرؤى ليس من الأمور الدينية ، أو التعبدية ؛ بل هو إلى الأمور العادية الدنيوية ألصق .
6 – معلومٌ أن المسجد هو مكان اجتماع المسلمين ، وملتقاهم ، وكان مأوى أهل الصفة ، وغير ذلك من الأمور التي ليست من قبيل العبادات ؛ بل من الأمور الدنيوية البحتة .
الراجح : أن الكلام في الأمور المباحة ، جائزٌ ، لا بأس به ، إلا أن الأولى تـنـزيه المسجد عنه ، وعدم الإكثار منه ، بحيث يكون مقراً للجلسات ، والاجتماعات ، وعلى هذا يحمل ما تقدم من أدلة المانعين ، وبه تجتمع الأدلة – إن شاء الله - ، والله أعلم 1.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 3/376 ) : [ ويسن أن يصان عن لغطٍ ، وكثرةِ حديثٍ لاغٍ ، ورفع صوتٍ بمكروه ، وظاهر هذا : أنه لا يكره إذا كان مباحاً ، أو مستحباً ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والشافعي – رحمهما الله - ... ]2 .
القسم الثاني : حكم الكلام المباح ، وذلك برفع الصوت :
القول الأول : المنع من رفع الصوت في المسجد بالكلام المباح ، ويستدل لهم بجميع الأدلة التي ذكرت في مبحث : حكم رفع الصوت بالكلام المشروع ، ويزاد هنا :
1 – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد ، فليقل : لا ردَّها الله عليك ، فإن المساجد لم تبن لهذا " .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالدعاء على ناشد الضالة بعدم وجدانها ، وذلك لأنه رفع صوته ، على ما سيأتي تحريره .
2 – أن الكلام المشروع إذا كان منهياً عنه ، فغيره من الكلام أولى .
3 – بناء عمر – رضي الله عنه – للرحبة ، وقال : " من أراد أن يلغط ، أو ينشد شعراً ، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة " .
4 – أن ترك رفع الصوت بالكلام المباح ، أبرأ للذمَّة ، وهو الذي عليه أكثر العلماء .
القول الثاني : أن رفع الصوت في المسجد ، لا بأس به ، ويستندون إلى حديث كعب بن مالك مع ابن أبي حَدْرَدْ المتقدم ، وهو مما يَرِد على الأدلة السابقة ، وتأويل بعض العلماء له ، يحتاج إلى نظرٍ وتأمل .
الراجح : أن رفع الصوت بالكلام المباح ، أقل أحواله الكراهة1 ، وقد يصل إلى التحريم في بعض المسائل ، مثل : إذا كان فيه تشويش على المتعبدين ، وكإنشاد الضالة ، ونحوهما والله – تعالى – أعلم 2.
مسألة : حكم إنشاد الضالة :
ورد في النهي عن إنشاد الضالة عِدَّةُ أحاديث ، منها :
1 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد ، فليقل : لا ردَّها الله عليك ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا " 3 .
وورد نحوه عن بريدة 4 ، وعن جابر 5.
2 – وعن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " نهى عن إنشاد الضالة في المسجد "6 .
3 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " إذا رأيتم من يبيع ، أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد ضالةً ، فقولوا : لا ردها الله عليك " 7 .
4 – عن أبي عثمان قال : سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالةً في المسجد ، فغضب ، وسبَّه ، فقال له رجلُ : ما كنت فحَّاشاً يا ابن مسعود ! قال : إنَّا كنَّا نؤمر بذلك .8
5 – عن عمرو بن دينار ، أنه سمع طاووساً ، يقول : نشد رجلٌ ضالته في المسجد ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " لا وجد ضالته "1 .
هذا ما استطعت جمعه من الأحاديث ، والآثار الواردة في النهي عن إنشاد الضالة2 .
وقد نص الأبي في شرح مسلم ( 2/246 ) على أن النهي للكراهة ، وكذلك البغوي في شرح السنة ( 2/374 ) ، وأبو داود في سننه .
ولعل هذا النهي للتحريم أقرب منه للكراهة فقط ، وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا على هذا الرجل ، وأمر من سمعه بالدعاء عليه .
والنهي هاهنا ، والدعاء عليه بسبب رفع صوته ، وتشويشه ، لا لأن نشدان الضالة في المسجد لا يجوز ، وذلك لما يلي :
1 – أن في بعض روايات مسلم : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – " لما صلَّى ، قام رجلٌ ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر " .
وجه الاستدلال : أن هذا الرجل قام بعد انقضاء الصلاة ، والناس مشغولين بالأذكار ، وبعضهم يقضي ما فاته من الصلاة ، فقام هذا الرجل : ونادى على مَن وجد جمله .
2 – أن في بعض روايات مسلم : جاء أعرابي بعدما صلَّى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة الفجر ، فأدخل رأسه من باب المسجد ...
وجه الاستدلال : أن هذا الرجل على هذه الصفة لا يمكن له أن يسأل بعيره إلا برفع صوته ، من أجل أن يُخبِر من في المسجد عن فقدانه جَمَلَه .
3 – نص بعض أهل العلم على ذلك :
أ – قال السهارنفوري في بذل المجهود ( 3/315 ) : قال أبو داود : ( باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد ) أي : طلبها برفع الصوت .
ب – وقال أيضاً ( 3/316 ) " من سمع رجلاً ينشد ضالةً " أي : يطلبها برفع الصوت .
ج – قال القرطبي في المفهم ( 2/174 ) قوله : " فليقل : لا ردَّها الله عليك " دعاءٌ على الناشد في المسجد بعدم الوجدان ، فهو معاقبةٌ له في ماله على نقيض مقصوده ، فَلْيُلْحَق به ما في معناه ، فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحةً ترجع إلى الرافع صوته ، دعيَ عليه على نقيض مقصوده ، ذلك بسبب جريمة رفع الصوت في المسجد ، وإليه ذهب مالك ... .
د - قال في عون المعبود ( 2/97 ) ، وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة ، ومافي معناه من البيع ، والشراء ، والإجارة ، والعقود .
هـ - بوَّب ابن حبان في صحيحه على هذا الحديث : ( ذكر الزجر عن رفع الأصوات في المساجد ؛ لأجل شيء من أسباب هذه الدنيا الفانية ) .
و - قال الأصمعي : في كل شيءٍ رفعت به صوتك ، فقد أنشدتَ ضالةً كانت أو غيرها ، انظر شرح سنن ابن ماجة لمغلطاي ( 4/1300 ) .
* يَرِدُ على ما تقدم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم – علَّل دعائه على ناشد الضالة ، بأن المساجد لم تُبْنَ لهذا ، أي لم تبن لنشد الضالة ، ونحوها ، ولم يعلل سبب نهيه ودعائه بأنَّ هذا من أجل رفع صوته .
يجاب عنه :
1 – أنه ينبغي عند استنباط الحكم من النص ، أن يُنْظَرَ إلى الحالة التي حَكم عليها النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة ملابسات الحادثة ، ونحو ذلك من أجل أن يكون حكمنا صواباً .
2 – أن عندنا أصلٌ ، وهو جواز الكلام بحديث الدنيا إذا كان مباحاً .
3 – أنا لو طردنا هذه العلَّة التي ذكروها ، لعارضنا الأحاديث الأخرى ، وذلك لأنَّـا سننهى عن مناشدة الأشعار ، وعن كلام الدنيا المباح ، وعن النوم في المسجد ، وعن المقاضاة في المسجد ... إلخ ، والتي هي في بادئ الرأي ليس مما بنيت المساجد له .
فيتلخص لنا : أن نشدان الضالة – بدون إزعاج ، ولا رفع للصوت – أنه دائرٌ بين الكراهة ، والتحريم ، أما إذا كان برفعٍ للصوت فهو للتحريم أقرب – والله أعلم - .
قال الباجي في المنتقى ( 1/312 ) : [ مسألة : قال مالك في المبسوط ، في الذي ينشد الضالة في المسجد، لا يقوم رافعاً صوته ، وأما أن يسأل عن ذلك جلساءه غير رافعٍ لصوته ، فلا بأس بذلك .
ووجه ذلك : أن رفع الصوت ممنوعٌ في المساجد ، لما ذكرناه1 ، فأمَّا سؤاله جليسه فمن جنس المحادثة ، وذلك غير ممنوعٍ ، مالم يبلغ ذلك اللغط من الإكثار ] .
مسألة : حكم السؤال في المسجد :
الصحيح في المسألة : ما قاله شيخ الإسلام ، كما في مجموع الفتاوى ( 22/206 ) : [ ... فإن كان به ضرورة ، وسأل في المسجد ، ولم يؤذِ أحداً بتخطيه رقاب الناس ، ولا غير تخطيه ، ولم يكذب فيما يرويه ، ويَذْكر من حاله ، ولم يجهر جهراً يضر الناس ، مثل أن يسأل والخطيب يخطب ، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ، ونحو ذلك جاز ، والله أعلم ] .
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنه – أصلٌ في المسألة – لو صحَّ – ، حيث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً ؟ " قال أبو بكر : دخلت المسجد ، فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة بين يدي عبد الرحمن ، فأخذتها ، فدفعتها إليه2 .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، لم يتعرض أو ينكر على أبي بكر فعله ، أو ينهَ عن السؤال في المسجد ، ولو كان السؤال غير جائزٍ لم يؤخر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بيانَ حكمه ، فدل ذلك على جوازه ، والله أعلم .
وانظر لهذه المسألة : مجموع الفتاوى ( 22/206 ) ، وبذل العسجد لسؤال المسجد للسيوطي وهي ضمن فتاواه ( 1/88 ) ، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ( 353 ) ، وفتاوى اللجنة ( 6/284 ) ، وأحكام المساجد في الشريعة الإسلامية للشيخ إبراهيم بن صالح الخضيري ( 154 ) ، وأحكام المساجد في الإسلام للدكتور محمود بن حسين الحريري ( 269 ) ، والآداب الشرعية (3/385) وغذاء الألباب ( 2/323 ) .
مسألة : حكم تعريف اللقطة في المسجد :
ينبغي قبل الخوض في بيان الحكم الشرعي للمسألة ، التنبيه على أمور :
1 – أن بعض الفقهاء لم يتعرض للكلام عن مكان تعريف اللقطة .
2 – أن بعض من أشار إلى هذه المسألة ، يقول : ( وتعرف على أبواب المساجد .. ) ، ولم يتعرض لخصوص مسألتنا ، ولا شك أنَّ تعريفها على أبواب المساجد أولى ، خروجاً من الخلاف2.
3 – أن من تكلم عن مسألتنا تجده يقول : ( تعريف اللقطة : هو المناداة .. ) ثم يجمعون بين ( المساجد ، والأسواق ، ومجامع الناس ) مما يجعل المرء قد يتوقف في طرد الحكم على تعريفها بكتابة ورقة ، أو سؤال آحاد الناس .
فأقدم بمقدمة تبين مقصود الفقهاء من قولهم : ( تعريف اللقطة ) ، فأقول – مستعيناً بالله – 3 .
1 – قال في غمز عيون البصائر ( 2/211 ) : [ تعريف اللقطة : هو المناداة في الأسواق ، والمساجد ، والشوارع : مَنْ ضاع له شيء ، فليطلبه عندي .. ] .
2 – قال في درر الحكَّام شرح غرر الأحكام ( 2/131 ) : [ .. بأن ينادي : إني وجدت لقطةً .. ] .
3 – وكذلك نصَّ ابن الهمام في فتح القدير على المناداة ( 6/115 ) .
4 – قال في تكملة حاشية ابن عابدين المسمَّاة بـ ( قرة عيون الأخيار ) : [ قوله : ( أي نادى بها .. إلخ ) أشار إلى أن المراد بالتعريف : الجهر به .. ]1 .
5 – قال ابن جزي المالكي في القوانين الفقهية ( 224 ) : ( فيجب تعريفه سنةً باتفاق ، وينادي عليه في أبواب المساجد ، ودبر الصلوات ... ) .
6 – قال في الإقناع ( 3/45 ) : [ وتعريفه على الفور .. بالنداء عليه .. في مجامع الناس ؛ كالأسواق ، والحمامات ، وأبواب المساجد .. ] .
7 – قال المجد ابن تيمية في المحرر ( 1/371 ) : [ ويجب تعريف لقطةٍ ... بالنداء في مجامع الناس ] .
8 – قال في المحلَّى ( 7/110 ) : [ لكن تعريفه هو : أن يقول في المجامع : الذي يرجو وَجْدَ صاحبه فيها، أو لا يرجو : مَنْ ضاع له مال ، فَلْيُخْبِر بعلامته ] .
ومعلومٌ أنَّ هذا لو كان بصوتٍ منخفض لم يكن قد أدَّى الذي عليه ، وإنما هو محتالٌ لإبراء ذمته2 .
* أدلة المانعين من تعريف اللقطة في المسجد :
1 – أخرج النسائي في سننه الكبرى ( 3/420 ط القديمة ) ، ومن طريقه ابن حزم في المحلَّى ( 7/116 ) عن رجلٍ من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سئل عن الضالة ، فقال : " اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ، فإن جاء صاحبها ، فادفعها إليه ، وإن لم يأتِ ، فعرفها سنة ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنك بها " .
* يرد عليه : أن الحديث ضعيف ، فقد قال فيه ابن حزم : وهذا حديثٌ هالك ، لأن الليث لم يسم من أخذ عنه ، وقد يرضى الفاضل مالا يُرضى ... ثم هو خطأ ، لأنه قال فيه : عن عبد الله بن يزيد ، وإنما هو عن يزيد ، لا عن عبد الله بن يزيد .
وكأن سياق النسائي لروايات الحديث تشير إلى تضعيفه .
2 – أمر عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد3 .
* يرد عليه : أن هذا اجتهاد من عمر – رضي الله عنه - ، وهذا كما لَحِظَ على حسان – رضي الله عنه – إنشاد الشعر ، ولم يوافق عليه .
ثم لا شك أن الأولى تعريفها خارج المسجد خروجاً عن الخلاف .
ثم عمر – رضي الله عنه – لم يبين حكم تعريفها داخل المسجد ، وإنما نصَّ على أن يعرفها الرجل عند باب المسجد فقط ، وهذا غير كافٍ للاستدلال .
3 – قياس تعريف اللقطة على نشدان الضالة :
* يرد عليه :
1 – قد تقدم ترجيح أن نشدان الضالة يحرم إذا كان برفع الصوت ، ويكره إذا كان بدون رفع للصوت ، والكراهة من أجل أدلة النهي عن نشدان الضالة الأخرى ، وهنا لا يوجد أدلة بخصوص تعريف اللقطة .
2 – أن قياس تعريف اللقطة على إنشاد الضالة قياس مع الفاروق ، وذلك لأن ناشد الضالة يطلب لنفسه ، ومُعَرِّفُ اللقطة لا يطلب لنفسه ؛ بل لغيره ، وقد ثبت في غير ما حديث طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من الصحابة التبرع إما لفقراء ، أو تجهيز جيش ، وهو في هذه الحالة لم يطلب – صلى الله عليه وسلم – لنفسه1.
ثم حتى ولو كان يطلب لنفسه فليس هناك حرجٌ – إذا كان بدون رفعٍ للصوت – ، والدليل على ذلك : سؤال الفقير في المسجد ، كما تقدم في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر2 .
4 – أن المساجد لم تُبْنَ لهذا ، وقد تقدمت الإجابة عليه في مبحث إنشاد الضالة .
فتبيَّن لنا أنه لم يوجد دليل ينهض لتحريم تعريف اللقطة في المسجد ،
فننظر إلى القاعدة في الكلام المباح في المسجد ، وهي : أن الكلام المباح جائزٌ بدون رفعٍ للصوت ، ولا تشويش على المتعبدين ،
وأما برفع الصوت فأقل أحواله الكراهة ، وقد يصل إلى التحريم ، كما تقدم ، والله أعلم .
وسئل الإمام مالك – رحمه الله – عن تعريف اللقطة في المساجد ، فقال لا أحب رفع الصوت في المساجد ، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد ، وأحبُّ إليَّ أن لا تعرف في المساجد ، ولو مشى هذا إلى الخلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد ، ولا يرفع صوته لم أَرَ بذلك بأساً3 .
قال القسطلاني في إرشاد الساري ( 5/424 ) : [ .. ويجب أن يكون محل التحريم ، أو الكراهة إذا وقع ذلك برفع الصوت ، كما أشارت إليه الأحاديث ، أما لو سأل الجماعة في المسجد بدون ذلك ، فلا تحريم ولا كراهة ]4.
وبهذا انتهى ما استطعت جمعه في بعض أحكام الكلام في المسجد
فما كان فيه من صواب فمن الله ، وما كان فيه من خطإ ، أو تقصير ، أو هوى فمن نفسي والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان .
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، اللهم ارزقني العلم النافع ، والعمل الصالح .
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وأتمني أن أكون قد أفدتكم إفادة كاملة بإذن الله أعضاء وزوار عـالـم الزين الكرام ♥
الكلام في المسجد , الكثير منا قد يصادفه التحدث والكلام بالمسجد ويتكلم بطيب خاطر .. كونه لا يعرف الحكم الإسلامي للحديث والكلام في المسجد ! فهل فكرنا في حكم ذلك في الشريعة الإسلامية ؟! هذا ما سنتناوله اليوم إن شاء الله وقد قسمت الموضوع إلي عدة أحكام بمسائل مختلفة لتغطية الموضوع
كاملاً وبصورة واضحة .. دون نقصان أو بهتان بإذن الله .. وعلي بركة الله نبدأ موضوعنا ..
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :
المسألة الأولى : حكم الكلام المحرم في المسجد :
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم الغيبة ، والنميمة ، والكلام البذيء في داخل المسجد ، ويزداد التحريم إذا كان هناك رفع للصوت وتشويش على المتعبدين ، ويستدل لذلك بما يلي :
1 – قال تعالى : " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ... " [ آية 36 من سورة النور ] .
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره ( 6/62 ) [ أي أمر لله – تعالى – برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس ، واللغو ، والأفعال ، والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : " في بيوت أذن الله أن ترفع " قال : نهى الله – سبحانه – عن اللغو فيها ، وكذا قال عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء التفسير ] .
ونقل البغوي – رحمه الله – في تفسيره ( 6/50 ) عن الحسن ، قولَه : أي تعظَّم ( 1 ) ، أي : لا يذكر فيه الخنا من القول .
2 – عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بنى رحبةً في ناحية المسجد ، تسمى : ( البطيحاء ) ، وقال : من كان يريد أن يَلْغَطَ ، أو ينشد شعراً ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة ( 2 ) .
وجه الاستدلال : أن عمر – رضي الله عنه – أمر من أراد أن يلغط ، بالخروج من المسجد ، وما ذاك إلا لعلمه – رضي الله عنه – بالنهي عن ذلك .
قال الباجي في المنتقى ( 1/312 ) : [ ولما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كثرة جلوس الناس في المسجد ، وتحدثهم فيه ، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط ، وهو : المختلط من القول، وارتفاع الأصوات ، وربما جرى أثناء ذلك إنشاد شعر ، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد ، وجعلها كذلك ، ليتخلَّص المسجد لذكر الله – تعالى – وما يحسن من القول ، و يتنزَّهَ من اللغط ، وإنشاد الشعر ، ورفع الصوت فيه ، ولم يُرِدْ أن ذلك محرمٌ فيه ، وإنما ذلك على معنى الكراهية ، وتنزيه المساجد ، لا سيما مسجدُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فيجب له من التعظيم ، والتنزيه ما لا يجب لغيره ] .
3 – قياس الأولى : فإذا كانت مثل هذه الأشياء منهيٌ عنها خارج المسجد ، ففيه أولى ، وذلك لحرمة المكان .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في مجموع الفتاوى ( 22/200 ) : [ وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسنٌ ، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً ، وكذلك المكروه ، ويكره فيه فضول المباح ] .
4 – قياس الكلام المحرَّم على أكل البصل ، والثوم ، والكراث ، قال القرطبي : [ قال العلماء : وإذا كانت العلَّة في إخراجه من المسجد أنَّه يُتَأَذَّى به ، ففي القياس : أنَّ كلَّ من تأذى به جيرانه في المسجد ، بأن يكون ذَرِبَ اللسان سفيهاً عليهم ... وكلُّ مايتأذى به الناس كان لهم إخراجه ، ماكانت العلة موجودةً فيه حتى تزول ] .
وقال أيضاً : [ قال أبو عمر بن عبد البر : وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام – رحمه الله – أفتى في رجلٍ شكاه جيرانه ، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ، ويده ، فَشُوُوِرَ فيه ؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه ، وألا يشهد معهم الصلاة ! إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه .
فذاكرته يوماً أمره ، وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك ، وراجعته فيه القول ، فاستدل بحديث الثوم ، وقال : هو عندي أكثرُ أذىً من أكل الثوم ، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد ] .( 3 )
الحواشي :
1 - إلى هنا انتهى كلام الحسن ، وما بعده من كلام البغوي – رحمهما الله - ، وانظر تفسير عبد الرزاق ( 2/442 ) .
2- أخرجه مالك بلاغاً ( 1/175 ) ، ووصله البيهقي في سننه ( 10/103 ) من طريق الإمام مالك ، قال الألباني – رحمه الله – في تعليقه على إصلاح المساجد ( 112 ) : رجاله ثقات ، ولكنه منقطع بين سالم ، وجده عمر . ا هـ .
قلت : وقد ذكر ابن عبد البر في الإستذكار ( 6/355 ) أن هذا الحديث في رواية القعنبي ، ومطرف ، وأبي مصعب موصولاً ، هكذا : مالك ، عن أبي النضر ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر بن الخطاب ... ، ثم ذكر أن طائفةً رووه كما رواه يحيى ، والله أعلم .
3 - الجامع لأحكام القرآن ( 12/267 ) وما بعدها .
المسألة الثانية : حكم الكلام المشروع في المسجد :
وهذا شامل لقراءة القرآن ، والصلاة ، وتعليم العلم ، والمواعظ ، ونحو ذلك .
فيمكن أن نجعل هذه المسألة في مبحثين :
المبحث الأول : إذا كان الكلام المشروع بدون رفعٍ للصوت ، ولا إزعاجٍ للآخرين ، فهذا مما لا خلاف في جوازه ؛ حيث إن المساجد لم تبن إلا لعمارتها بالذكر ، وقراءة القرآن ، والصلاة ، كما جاء في حديث الأعرابي2 .
المبحث الثاني : أن يكون برفع الصوت ، وقد يحصل منه إزعاجٌ للآخرين ، فلا يخلو من حالتين :
الأولى : أن يكون مما أمر الله – سبحانه - ، وحثَّ رسوله – صلى الله عليه وسلم – على رفع الصوت فيه ، كالقراءة في الصلاة الجهرية ، والخطب ... فلم أجد – حسب بحثي – مَنْ مَنَعَ رفع الصوت ، ولو وجد لكانت ظاهر النصوص تدفع كلامه 3 .
الثانية : وهي ماعدا الحالة الأولى ، كالمواعظ ، والذكر ، وقراءة القرآن ، ونحوها ؛ فللعلماء في ذلك قولان :
الأول : المنع منه ، سواءً منعَ كراهةٍ ، أو تحريم 1 .
ومما يمكن أن يستدل لهم به :
1 – عن عبد الله بن عمر ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكف ، وخطب الناس ، فقال : " أمَا إنَّ أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه ، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه ، ولا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقراءة في الصلاة " 2.
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم – نهى الصحابة من جهر بعضهم على بعضٍ بالقراءة ، مع أن قراءة القرآن من الأمور المشروعة في المسجد .
* يرد عليه : أن هذا خاص بالجهر في الصلاة .
2 – عن واثلة بن الأسقع ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " جنبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وشراركم ، وبَيْعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم ، وسلَّ سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمِّرُوْهَا في الجمع " 3 .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث ، نهى عن رفع الصوت .
* يرد عليه : أن الحديث ضعيف .
3 – قال صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " 4 .
وجه الاستدلال : أن في رفع الصوت سواءً بالقراءة ، أو بالعلم ضرراً على من بجواره ، والضرر مدفوعٌ كما بيَّن ذلك هذا الحديث ، وما رأيك بمسجدٍ كلُّ من فيه يجهر بصوته ، فماذا عساه أن يكون ؟! .
4 – عن السائب بن يزيد قال : كنت قائماً في المسجد ، فحصبني رجلٌ ، فنظرتُ ، فإذا عمر بن الخطاب، فقال اذهب ، فأتني بهذين ، فجئته بهما ، فقال : من أنتما ، أو من أين أنتما ؟ قالا : من الطائف قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم ! 1.
وجه الاستدلال : أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – زجر هذين الرجلين ؛ بل هَمَّ أن يوجعهما ضرباً ، مما يدل على أنهما فعلا مخالفةً شرعية .
قال ابن حجر في الفتح ( 1/668 ) [ قوله " لأوجعتكما " زاد الإسماعيلي " جلداً " ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع ؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي ] .
* يرد عليه : أن قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : ( ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) يظهر منه أن ذلك خاصٌ بمسجدِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لوجوده – صلى الله عليه وسلم - ، وحرمته ميتاً ، كحرمته حياً ، وقد قال بهذا بعض أهل العلم2 ؛
ومما يؤكد هذا – أيضاً – ما ورد في مصنف عبد الرزاق ( 1711 ) عن نافعٍ قال : كان عمر بن الخطاب يقول : لا تكثروا اللغط ، يعني في المسجد ، قال : فدخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما ، فبادراه ، فأدرك أحدهما ، فضربه ، وقال : ممن أنت ؟ قال : من ثقيف ، قال : إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت .
* يجاب عنه : بما قاله الحافظ ابن حجر ( 1/668 ) [ أن هذا الأثر فيه انقطاع ، لأن نافعاً لم يدرك ذلك الزمن ] .
* يجاب عنه : بأنَّ نافعاً أخذه من ابن عمر ، بدليل ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ( ) ، وأيضاً بالرواية الأخرى عند الصنعاني ( 1712 ) .
وحتى لو لم ترد هذه الروايات ، فأثر السائب الذي في البخاري كافٍ في الاستدلال .
5 – أثر عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه أنكر على جماعةٍ في المسجد ، يهللون ، ويكبرون ، ويسبحون جهراً ، وقال لهم : ما أراكم إلا مبتدعين3 .
* يرد عليه : أن إنكار بن مسعود – رضي الله عنه – عليهم ، لم يكن على جهرهم ، وإنما على الصفة التي كانوا يتعبدون بها ، بدليل : أنه ذكر أن فعلهم هذا بدعة ، ثم ليس هناك ما يدل على كون ذلك جهراً .
القول الثاني : جواز ذلك ، ويستدل لهم بالآتي :
1 – حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدْ ديناً كان له عليه في المسجد ، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وهو في بيته ؛ حتى كشف سِجْفَ حجرته ، فنادى : " ياكعب " قال : لبيك ، يارسول الله . قال : " ضع من دينك هذا " وأومأ إليه ، أي الشطر . قال : قد فعلت يارسول الله . قال : " قم فاقضه " 1 .
وجه الاستدلال : قال ابن حجر في الفتح ( 1/658 ) : [ قال المهلب : لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ولبيَّن لهما ] .
* يرد عليه : قال ابن حجر ( 1/658 ) : [ قلت : ولمن منع أن يقول : لعله تقدَّم نهيه عن ذلك ، فاكتفى به ، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك ، بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت ] .
* يجاب عنه : ينبغي أولاً : إثبات أن النهي عن رفع الصوت كان قبل هذه الحادثة .
* ثم ثانياً : ما الدليل على النهي عن رفع الصوت ؟ .
فإن قيل : قد تقدمت أحاديث النهي عن رفع الصوت .
قلنا : لا تخلو أدلتكم من ثلاث حالات :
1 – إما حديثٌ ضعيف ، لا يصلح الاحتجاج به .
2 – وإما مالا دلالة فيه ، أو فيه دلالةُ عامة ، يمكن أن تخص .
3 – وإما دليلٌ صحيحٌ ، معارضُ بأدلةٍ أخرى مثله ، فَيُجْمَعُ بينها.
* يرد عليه أيضاً : أن قصة كعب ليست في الأمور الشرعية .
يجاب عنه : أنَّ هذا إذا كان جائزاً في الأمور الدنيوية ، فالأمور الشرعية أولى بالجواز .
2 – حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ما كنَّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا بالتكبير2 .
وجه الاستدلال : أنَّ هذا ذكر مشروعٌ ورد رفع الصوت به في المسجد ، مع أنَّ المسجد بعد انقضاء الفريضة لا يخلوا ممن يقضي ما فاته ، ففيه تشويش عليهم .
* يرد عليه :
1 – أن الخلاف قائمٌ في جواز رفع الصوت بالذكر ، فلا يصح الاستدلال في موضعِ نزاعٍ أصلاً .
2 – حَمَلَه بعضهم على أنَّ هذا كان في أول الأمر ، لأجل تعليم صفة الذكر ، ولم يداوموا عليه .
* ويجاب عن ذلك :
1 – أن الذي ترجح عندنا هو مشروعية الجهر بالذكر ، فالحق واحد1.
2 – أما الاعتراض الثاني ، فيقلب عليهم ، بأن يقال : إذا كان هذا الفعل مشروعاً في مدَّةٍ معينةٍ ، مع أن فيه منكراً آخر – على حدِّ زعمهم – وهو رفع الصوت في المسجد ، والتشويش على المصلين ، دلَّ على أنَّ ما فيه مصلحةٌ راجحةٌ – مما هو مشروع – يجوز فيه رفع الصوت ، وهذا هو الراجح .
الراجح : التفريق بين ماله مصلحةٌ راجحة ، وبين ما مفسدته راجحة ، فالجواز في الأول ، وتتوجه الكراهة في الثاني ، إن لم يصل إلى التحريم ، وبهذا تجتمع الأدلة ، والله أعلم2 .
قال ابن حجر في الفتح ( 1/668 ) : [ أشار بالترجمة 3 إلى الخلاف في ذلك ... وساق البخاري في الباب حديث عمر الدال على المنع ، وحديث كعب الدال على عدمه ، إشارةً منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تلجئ الضرورة إليه ] .
قال ابن عَلَّان في الفتوحات ( 2/59 ) :[ نقل ابن العماد عن المصنفلمصنف4 أنه أفتى في قوم يجهرون بالقراءة ، وعندهم قومٌ يصلون ، ويتشوشون بذلك . بأن المستمعين إذا كانوا أكثر من المصلين لم يحرم ، أو بالعكس حرم ؛ نظراً لكثرة المصلحة ، وقِلَّتها .
ثم نَظَّرَ 1فيه ، وبحث المنع من الجهر بحضرة المصلي مطلقاً ، قال : لأن المسجد وقفٌ على المصلين ، أي أصالةً ، لا على الوعّاظ ، والقراء . ا هـ .
قال في شرح العُباب : والذي في فتاوى النووي : ( كُرِهَ ) بدل ( حَرُمَ ) ، وهو ما صرَّح به في المجموع وغيره ، وقد يحمل بعد القول بالكراهة على ما إذا خفَّ الضرر ، وبالحرمة على ما إذا اشتدَّ ، كما هو معلومٌ من تحريم الإضرار ، وإن أمكن توجيه إطلاق الكراهة بأن لنحو المصلي مندوحةٌ من الصلاة في ذلك المحل ، أو في ذلك الزمن ] 2 .
المسألة الثالثة : حكم الكلام المباح في المسجد :
وذلك كالكلام في أمور الدنيا ، وإنشاد الشعر ، ونحو ذلك .
ويمكن أن نقسم هذه المسألة إلى مبحثين :
المبحث الأول : إذا كان الكلام المباح بدون تشويش على المتعبدين ، فاختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن الكلام في أمور الدنيا ممنوع ، إما كراهةً ، أو تحريماً ، واستدلوا بما يلي :
1 – عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حِلَقَاً حلقاً ، إمامهم الدنيا ، فلا تجالسوهم ، فإنه ليس لله فيهم حاجة " أخرجه الطبراني ، وحسنه الألباني – رحمه الله – كما في السلسلة الصحيحة ( 1163 ) .
وجه الاستدلال : أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذم هؤلاء ، وأخبر أن سبب ذمهم جعل الدنيا حديثهم .
* يرد عليه : أنَّ الحديث ضعيفٌ ، لا يصح .
فهذا الحديث جاء عن : عبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك – رضي الله عنهما – مرفوعاً ،
وروي نحوه موقوفاً عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - ،
وروي نحوه عن الحسن البصري مرسلاً .
فأما رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – : فأخرجها الطبراني في الكبير ( 10 / 198 برقم 10452 ) ، وأبو إسحاق المزكي في الفوائد المنتخبة ( 1 / 49 / 2 ) – أفاده الألباني – ، وابن عدي في الكامل ( 2 / 59 ) ، والداني في السنن الواردة في الفتن ( 3 / 665 ) ، وابن أبي عاصم في الزهد ( 1 / 142 ) ، وأخرجه بنحوه أبو نعيم في الحلية ( 4 / 116 ) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ( 1 / 412 ) كلهم من طريق بزيع أبي الخليل الخصاف ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً .
قلت :
بزيع أبي الخليل الخصاف :
قال أبو حاتم ( الجرح والتعديل 2 / 421 ) : ذاهب الحديث .
قال ابن حبان في " المجروحين " ( 1 / 227 ) : ... يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات ، كأنه المتعمد لها .
وقال الدار قطني في الضعفاء المتروكين ( ص 69 ) : بزيع بن حسان أبو الخليل : متروك ، كوفي عن الأعمش وهشام بن عروة ، بواطيل .
وقال الحاكم في المدخل إلى الصحيح ( 1 / 172 ) : روى عن هشام بن عروة ومحمد بن واسع والأعمش أحاديث موضوعة ، يرويها عنه الثقات مثل / عبد الرحمن بن المبارك وغيره .
وقال الذهبي في الميزان ( 1 / 306 ) : متهم ، وقال في المغني ( 1 / 157 ) : ترك حديثه ، واتهم .
والخلاصة : أنه متروك ؛ بل متهم بالوضع .
الأعمش : سليمان بن مهران الأسدي ، أبو محمد الكوفي ، الإمام الحافظ .
وثقته وإمامته معروفة ؛ لكن ذكر الأئمة عنه أنه كان يدلس ، وقد لخص الذهبي في الميزان ( 2 / 224 ) كيفية التعامل مع رواياته ، فقال : أحد الأئمة الثقات ... مانقموا عليه إلا التدليس ، وقال : وهو يدلس ، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به ؛ فمتى قال : ( حدثنا ) فلا كلام ، ومتى قال : ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم : كإبراهيم ، و ابن أبي وائل ، وأبي صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال .
شقيق بن سلمة : أبو وائل الأسدي ( أسد خزيمة ) ، ثقة مخضرم .
وقال عمرو بن مرة : قلت لأبي عبيدة : مَنْ أعلم أهل الكوفة بحديث عبد الله ؟ قال : أبو وائل .
ورواية الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود خرج لها الجماعة .
قلت : هذا إسناد ضعيف جداً ، وذلك : لحال يزيد بن حسان الخصاف ، فهو متروك ؛ بل ومتهم .
قال أبو نعيم في الحلية : غريب من حديث الأعمش ، تفرد به ابن صدران عن بزيغ ، وبزيغ الخصاف البصري ، واهي الحديث .
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية : هذا حديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمتهم به بزيع .
وقال الدارقطني – كما نقل ذلك ابن الجوزي – : لم يحدث به غيره ، قال : وبزيع متروك .
قال الهيثمي في المجمع ( 2 / 24 ) : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه بزيع أبو الخليل ، ونسب إلى الوضع .
قال الألباني في السلسلة الصحيحة ( 3 / 152 / ح 1163 ) : قلت : بزيع متروك ... .
وقد تقدم نقل ما قيل فيه ، وفي روايته عن الثقات ؛ بل نص بعض الأئمة على بطلان روايته عن الأعمش .
ولكن بزيعاً هذا قد توبع ، فقد تابعه عيسى بن يونس ، أخرجها ابن حبان في صحيحه ( 15 / 162 / ح 6761 ) قال : أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوهاب النصري ، حدثنا أبو التقى ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش به .
قلت :
الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان : أبو علي .
وقال الدار قطني عنه – كما في سؤالات السهمي – ( 276 ) ثقة .
قال عنه الذهبي في السير ( 14 / 286 ) : الحافظ المسند الثقة ... رحَّال مصنِّف .
عبد الصمد بن عبد الوهاب : هو الحضرمي ، النصري ، الحمصي .
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 6 / 52 ) : صدوق .
قال النسائي – كما في تهذيب الكمال 18 / 103 – : لا بأس به .
قال ابن حجر في التهذيب ( 6 / 328 ) : و ذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج حديثه في صحيحه .
قال ابن حجر في التقريب ( 4109 ) : صدوق .
أبو التقي : هو عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي ، الحمصي ؛ كما بين ذلك ابن حبان في صحيحه بعد روايته للحديث .
قال ابن أبي حاتم ( 6 / 8 ) : سألت محمد بن عوف حمصي عنه ، فقال : كان شيخاً ضريراً لا يحفظ ، وكنا نكتب نسخة عند إسحاق ( ابن زبريق ) لابن سالم ، فنحمله إليه ، ونلقنه فكان لا يحفظ الإسناد ، ويحفظ بعض المتن ، فيحدثنا ، وإنما حملنا الكتاب عنه شهوة الحديث .
وكان إذا حدث عنه محمد بن عوف قال : وجدت في كتاب ابن سالم ، حدثنا به أبو تقي .
وقال ابن أبي حاتم – أيضاً – : سمعت أبي ذكر أبو تقي عبد الحميد بن إبراهيم ، فقال : كان في بعض قرى حمص ، فلم أخرج إليه ، وكان ذكر أنه سمع كتب عبدالله بن سالم عن الزبيدي إلا أنه ذهبت كتبه ، فقال : لا أحفظها ، فأرادوا أن يعرضوا عليه ، فقال : لا أحفظ ، فلم يزالوا به حتى لان ، ثم قدمت حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة ، فإذا قوم يروون عنه هذا الكتاب وقالوا : اعرض عليه كتاب ابن زبريق ولقنوه ، فحدثهم بهذا ، وليس هذا عندي بشيء ، رجل لا يحفظ ، وليس عنده كتب .
قال عنه النسائي : ليس بشيء ، وقال مرة : ليس بثقة ( تهذيب الكمال ( 16 / 408 ) .
ولم أجد أحداً وثقه إلا ابن حبان في صحيحه ( 15 / 164 ) ، فقد وثقه في صحيحه بعد روايته لهذا الحديث ، وذكره في الثقات ( 8 / 400 ) .
وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء ( 1 / 587 ) رقم ( 3480 ) .
وقال ابن حجر في التقريب ( 3775 ) : صدوق ، إلا أنه ذهبت كتبه فساء حفظه .
والخلاصة : أنه لا يحتج به ، فإنه لم يوثقه – حسب إطلاعي – إلا ابن حبان ، والأئمة على تضعيفه ، وهذا محمد بن عوف وهو بلديه وأعرف الناس به ، قال ما تقدم .
عيسى بن يونس : هو ابن أبي إسحاق السبيعي ، أبو عمر ، ويقال : أبو محمد الكوفي ، ثقة بالاتفاق ، وقد أطال المزي في تهذيب الكمال في ترجمته ( 23 / 62 ) .
وقال محمود بن غيلان ، عن محمد بن عبيد الطنافسي : رأيت أصحاب الأعمش الذين لا يفارقونه : عيسى بن يونس ... .
وليس هو المقدم بإطلاق فيه ، لكنه من خاصة تلاميذه ، وقد أخرج له الجماعة .
وأما حديث أنس بن مالك ؛ فقد جاء عنه من طريقين :
الأول : ما رواه أبو عبد الله الفلاكي في " الفوائد " ( 88 / 1 ) – أفاده الألباني – قال : أخبرنا أحمد بن صالح المقري ، ثنا محمد بن عبيد ، ثنا عصام ، ثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أنس مرفوعاً بلفظ : " يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم " .
قلت :
أحمد بن صالح المقري : لم أعرفه ، ولعله : أحمد بن صالح بن عمر ، أبو بكر المقرئ ، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد ( 4 / 426 دار الكتب العلمية ) قال : انتقل إلى الشام ، ونزل طرابلس ، وحدَّث بها ، وبالرملة عن جعفر بن عيسى الناقد ، ومحمد بن الحكم العتكي ، وروى عن الغرباء ، وذكر ابن الثلاج أنه سمع منه ، ثم روى له حديثاً من طريقه .
محمد بن عبد : هو ابن عامر السمرقندي ، أبو بكر التميمي .
قال الخطيب في تاريخ بغداد ( 3 / 190 دار الكتب العلمية ) : قدم بغداد ، وحدَّث بها وبغيرها عن يحيى بن يحيى النيسابوري ... وعصام ... أحاديث منكرة وباطلة .
وقد روى له الخطيب بعض الأحاديث المستنكرة ، وكان يتهمه بوضع أسانيدها ، وقال في أحدها : وله أحاديث كثيرة تشابه ماذكرناه ، وكلها تدل على سوء حاله وسقوط رواياته .
وروى الخطيب ( 3 / 193 ) عن أبي سعيد بن يونس أنه قال : محمد بن عبد بن عامر بن مرداس بن هارون بن موسى السفدي ، يكنى أبا بكر من أهل سمرقند ، لم يكن بالمحمود في الحديث .
وروى ( 3 / 194 ) عن أبي بكر محمد بن عمر الجعابي أنه قال : كانوا يذمونه في سماعه .
وقال قرأت في كتاب أبي بكر البرقاني بخطه ، قال علي بن عمر الدار قطني :لم يكن مرضياً في الحديث .
وقال محمد بن أبي الفوارس : قرأت على أبي الحسن الدارقطني ، قال : محمد بن عبد بن عامر السمرقندي يكذب ويضع .
وروى الخطيب ( 3 / 194 ) عن أبي سعيد عبدالرحمن بن محمد الإدريسي أنه قال : ولم أر لأهل بلده عنه شيئاً ، يحدث بالمناكير على الثقات ، يتهم بالكذب ، وكأنه كان يسرق الأحاديث والإفرادات ويحدث بها ، ويتابع الضعفاء والكذابين في رواياتهم عن الثقات بالأباطيل .
وقال الذهبي في الميزان ( 3 / 633 ) : معروف بوضع الحديث ، وضعفه في المغني ( 2/343 ) بالوضع أيضاً .
عصام : هو ابن يوسف البلخي ، يروي عن محمد بن عبد ، نبه على ذلك الخطيب في ترجمة محمد بن عبد .
قال ابن حبان في الثقات ( 8 / 521 ) : وكان صاحب حديث ، ثبتاً في الرواية ، ربما أخطأ .
وقال الخليلي في الإرشاد ( 3 / 937 ) : صدوق .
وقال ابن عدي في الكامل ( 5 / 371 ) : روى أحاديث لا يتابع عليها .
و ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 7 / 26 ) ولم يذكر فيه شيئاً .
ونقل ابن حجر في لسان الميزان ( 5 / 436 ) أن ابن سعد قال : كان عندهم ضعيفاً في الحديث .
قال ابن عدي في الكامل ( 5 / 371 ) : وقد روى عصام هذا عن الثوري ، وعن غيره أحاديث لا يتابع عليها .
سفيان : هو ابن سعيد بن مسروق الثوري ، أبو عبد الله الكوفي ، ثقة حافظ فقيه عابد ، إمام حجة .
أبو حازم : سلمة بن دينار ، فإني لم أجد من روى عنه الثوري ممن يكنى أبا حازم إلا سلمة بن دينار ، وقد أخرج حديث سفيان عن أبي حازم الجماعة ، وهو ثقة عابد ؛ كما في التقريب ( 2502 ) .
قال الألباني : وهذا إسنادٌ واهٍ جداً ...
قلت : وهو كما قال – رحمه الله – ، وذلك لما يلي :
1 – أحمد بن صالح المقري ، إن كان هو من ذكرت ، فإنني لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو مجهول الحال ، و إلا فمجهول العين .
2 – محمد بن عبد ، وقد تقدم ما فيه ، وأنه وضاع كذاب .
3 – عصام بن يوسف البلخي ، وفيه مقال ، وقد ذكر ابن عدي أنه يروي عن الثوري وغيره أحاديث لا يتابع عليها ؛ وهذا منها وذلك لأن المتابعة المذكورة بعد قليل لا تصح .
الثانية : ما أخرجه الحاكم في مستدركه ( 5 / 461 رقم 7986 ط . دار المعرفة : عبد السلام علوش ) ، قال : حدثني : علي بن بندار الزاهد ، حدثنا محمد بن المسيب ، حدثني أحمد بن بكر البالسي ، ثنا زيد بن الحباب ، ثنا سفيان الثوري ، عن عون بن أبي ححيفة ، عن الحسن بن أبي الحسن ، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً : " يأتي الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم " .
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه !
وسكت عنه الذهبي .
قلت :
علي بن بندار الزاهد : هو الصيرفي ، وهو صوفي عابد ؛ كما قال الذهبي في السير ( 16 / 109 ) ، ولم يذكر فيه سوى قوله : روى عنه الحاكم ، ووثقه .
محمد بن المسيب : هو النيسابوري ، ثم الأرغياني ، الإسفنجي ، العابد .
قال الذهبي في السير ( 14 / 422 ) : الحافظ ، الإمام ، شيخ الإسلام ، أبو عبد الله .
وقال أيضاً : وصنف التصانيف الكبار ، وكان ممن برز في العلم والعمل .
وقد روى عنه ابن خزيمة ، والحاكم .
أحمد بن بكر البالسي : أبو سعيد .
قال الدار قطني كما في اللسان ( 1 / 411 ) : غيره أثبت منه ، قال ابن حجر : وأورد له في غرائب حديثاً في سنده خطأ ، وقال : أحمد بن بكر ضعيف .
وقال ابن حبان ( 8 / 51 ) : كان يخطئ .
وقال ابن عدي في الكامل ( 1 / 188 ) : روى مناكير عن الثقات .
وقال أبو الفتح الأزدي – كما في اللسان ( 1 / 411 ) – : كان يضع الحديث .
وذكره الذهبي في المغني ( 1 / 60 ) .
زيد بن الحباب : أبو الحسن الكوفي : ثقة ، مكثر ، لكن في روايته عن الثوري بعض الشيء .
فقد قال ابن معين : كان يقلب حديث الثوري ، ولم يكن به بأس.
وقد سبر ابن عدي رواياته ، ثم قال : وزيد بن الحباب له حديث كثير ، وهو من أثبات مشايخ الكوفة ، ممن لايشك في صدقه ، والذي قاله ابن معين : أن أحاديثه عن الثوري مقلوبة ، إنما له عن الثوري أحاديث تشبه بعض تلك الأحاديث ، يستغرب بذلك الإسناد ، وبعضه يرفعه ولا يرفعه غيره ، والباقي عن الثوري أحاديث تشبه بعض تلك الأحاديث يستغرب بذلك الإسناد وبعض يرفعه ولايرفعه غيره ، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها ( 3/210 ) .
فلذلك قال ابن حجر في التقريب ( 2136 ) : وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري .
سفيان : تقدم .
عون بن أبي جحيفة : وهو وهب بن عبد الله السُّوائي الكوفي .
قال المزي في التهذيب ( 22 / 448 ) قال : إسحاق بن منصور : عن يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي : ثقة .
أخرج له الجماعة ، وذكره ابن حبان في ثقاته ( 5 / 263 ) .
وقال ابن حجر في التقريب ( 5254 ) : ثقة .
الحسن بن أبي الحسن : هو البصري .
و قد سمع من أنس ، وقد خرج روايته عن أنس الجماعة – كما في تهذيب الكمال ( 6 / 90 ) – .
قلت : هذا الإسناد تالف ، وذلك لما يلي :
1 – أحمد بن بكر البالسي : ضعيف ، يروي المناكير .
2 – زيد بن الحباب : ثقة ، يخطئ في روايته عن الثوري ، وهو هنا يروي عنه .
وأما أثر عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – موقوفاً عليه : فقد ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 3 / 379 ) ، ولم أجده مسنداً .
وأما ما جاء عن الحسن البصري ، فقد جاء عنه من وجهين :
الوجه الأول : مرسلاً : أخرجه البيهقي في الشعب ( 4 / 387 / رقم 2701ط الجديدة ) ( 6 / 220 / رقم 2701 ط القديمة ) قال : أخبرنا أبو طاهر الفقيه ، حدثنا أبو بكر القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن يوسف ، قال : أخبرنا سفيان عن بعض أصحابه عن الحسن قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " يأتي على الناس زمان يكون حديثه في مساجدهم في أمر دنياهم ، فلا تجالسوهم ، فليس لله فيهم حاجة " .
قال البيهقي : هكذا جاء مرسلاً .
قال المحقق : إسناده فيه رجل مبهم لم يسمَّ ، والحديث مرسل .
قلت :
وفيه – أيضاً – محمد بن يوسف ، هو : الضبي مولاهم ، الفريابي ،
وقال ابن أبي حاتم ( الجرح 8 / 119 ) : سألت عن الفريابي ، فقال : صدوق ثقة .
قال عنه النسائي – كما في تهذيب الكمال 27 / 57 – ثقة .
قال العجلي في الثقات له ( 2 / 257 ) : الفريابي ثقة ... كانت سنته كوفية .
وقال – أيضاً – : وقال لي بعض البغداديين : أخطأ محمد بن يوسف في خمسين ومائة حديث من حديث سفيان .
وقال ابن عدي في الكامل ( 6 / 232 ) : والفريابي له عن الثوري أفرادات ، وله حديث كثير عن الثوري ، وقد قُدِّم الفريابي في سفيان الثوري على جماعة مثل : عبد الرزاق ونظرائه ، وقالوا : الفريابي أعلم بالثوري منهم ... .
ثم قال : الفريابي فيما يتبين هو : صدوق ، لا بأس به .
قال ابن حجر في التقريب ( 6455 ) : ثقة فاضل ، يقال : أخطأ في شيءٍ من حديث سفيان ، وهو مقدم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق .
الوجه الثاني : من كلامه : أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 13 / 528 / 17159 ) قال : حدثنا معاوية بن هشام ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن الحسن قال : يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم أمر دنياهم ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم .
وأخرجه أبو بكر المروزي في الورع ( ص 62 ) قال : عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قال : يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم ، فليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم .
قلت :
معاوية بن هشام : هو القصَّار ، أبو الحسن الكوفي .
قال أبو حاتم ( الجرح 8 / 385 ) : قلت لعلي بن المديني : فمعاوية بن هشام ، وقبيصة ، والفريابي ؟ قال : متقاربين .
وقال الإمام أحمد – كما في تهذيب التهذيب 10 / 218 – : هو كثير الخطأ .
وقال ابن عدي في الكامل ( 6 / 408 ) : وقد أغرب عن الثوري بأشياء ، وأرجو أنه لا بأس به .
وقال ابن حجر في التقريب ( 6819 ) : صدوق ، له أوهام .
وباقي رجال الإسناد : تقدمت ترجمتهم .
الحكم على الحديث :
هذا الحديث صححه ابن حبان ، والألباني ، والحاكم ،
وضعفه الدارقطني ، وأبو نعيم ، وابن الجوزي ، والهيثمي ،
وقد سألت شيخنا الشيخ صالح العصيمي – حفظه الله – عن هذا الحديث : فضعفه .
وقد سألت الشيخ عبد الله العبيد – حفظه الله – : فذكر لي أنه أخرجه ابن حبان ، وقال : لعل إسناده نظيف .
وقد سألت الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد – حفظه الله – فقال : لا يصح .
قلت : فالحديث ضعيفٌ مرفوعاً ، والله أعلم .
* ويرد عليه أيضاً : أنَّ هذا الحديث مُعارَضٌ بأحاديث أصحَّ منه ؛ بل وفي الصحيحين ، وسيأتي ذكرها .
* ويرد عليه أيضاً : أنه قال : " إمامهم الدنيا " ، فالحديث العارِض ، أو غير الكثير ، ليس داخلاً في النهي .
2 – ما جاء من الأحاديث في النهي عن إنشاد الشعر في المسجد ، ومن هذه الأحاديث :
أ – عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد . 3
ب – عن حكيم بن حزام ، بنحو حديث عمرو بن شعيب.4
ج – روى أبو القاسم البغوي في (( معجمه )) من طريق ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عقبة ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام ، عن أبيه ، قال : أتى ابن الحُمَامة السلمي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في المسجد ، فقال : إني أثنيت على ربي – تعالى - ، ومدحتك قال : أمسك عليه ، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فخرج به من المسجد ، فقال : ما أثنيت على ربك فهاته ، وأمَّا مدحي فدعه عنك ، فأنشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً ، فأمره أن يعطيه شيئاً ، ثم أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الناس ، فوضع يده على حائط المسجد ، فمسح به وجهه وذراعيه ، ثم دخل1 .
د – عن ثوبان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد ، فقولوا : فضَّ الله فاك ، ثلاث مرات " . 2
هـ - ما جاء عن بعض الصحابة من كراهة ذلك ، انظر فتح الباري لابن رجب ( 2/513 ) ، وقصة عمر مع حسَّان ستأتي – إن شاء الله - .
* يرد عليه : أن هذه الأحاديث والآثار ، معارضة بما ثبت في الصحيحين من إنشاد حسان للشعر ، بل وبأمرٍ من الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك إنشاد كعب بن زهير3 ؛ فإما أن نعطل بعض النصوص ، أو نجمع بينها ، ولا شك أن الثاني هو الذي عليه المحققين من الأئمة ، فنقول :
أن الذي نهى عنه – صلى الله عليه وسلم - ، وكرهه السلف ما كان من الشعر الباطل والماجن ، وما سوى ذلك ، فلا بأس به .
أو يقال : المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد ، حتى يتشاغل به من فيه.
قال القرطبي في الجامع ( 12/271 ) : [ أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك ،
فمن مانع مطلقاً ،
ومن ميجز مطلقاً ؛
والأولى التفصيل ، وهو : أن يُنْظَرَ إلى الشعر فإنْ كان مما يقتضي الثناء على الله – عز وجل - أو على رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، أو الذب عنهما كما كان شعر حسان ، أو يتضمن الحضَّ على الخير ، والوعظ ، والزهد في الدنيا ، والتقلل منها ، فهو حسنٌ في المساجد وغيرها ...
وما لم يكن كذلك لم يجز ؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش ، والكذب ، والتزين بالباطل ، ولو سلم من ذلك ، فأقل ما فيه اللغو والهَذّر ، والمساجد منزهةٌ عن ذلك ، لقوله تعالى : " في بيوتٍ أذن الله أن ترفع " ، وقد يجوز إنشاده في المساجد ( !! ) كقول القائل : ... ، وقول الآخر :
إذا سقط السماء بأرض قومٍ * رعيناه ، وإن كانوا غِضَابا .
فهذا النوع ، وإن لم يكن فيه حَمْدٌ ، ولا ثناء يجوز ( ؟! ) ، لأنه خالٍ من الفواحش والكذب ] .2
وقد رجح ابن رجب في شرح البخاري ، أحاديث الجواز ؛ حيث قال ( 2/513 ) : [ وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد ... والصحيح في الجواب : أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة ، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها ، وصحتها ] . ا هـ ، وانظر الفتح لابن حجر ( 1/653 ) .
3 – أن المساجد لم تبنَ لأحاديث الدنيا ، وإنما هي لقراءة القرآن ، والذكر ، والصلاة ، كما جاء في حديث الأعرابي .3
* يرد عليه : ما جاء في أحاديث كثيرة ، من – مثلاً – إنشاد الشعر ، والتحدث في أمور الجاهلية ، والنوم فيه ، ولعب الحبشة ، وقضاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين كعب ، وابن أبي حَدْرَدْ ، وربط الأسير المشرك فيه ، ونوم أهل الصفَّة فيه ؛ بل وأجاز بعض أهل العلم الحدث في المسجد إذا لم يكن هناك تلويثٌ ، ولا إضرارٌ بمن حوله 4 فهل هذه الأشياء ، وغيرها مما بنيت له المساجد ؟!
فالأولى : حمل كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث ، على التوجيه والإرشاد إلى أصل الحكمة التي بنيت من أجلها المساجد ، لا على قصرها على ما ذكر .
القول الثاني : أن الكلام المباح في المسجد ، لا بأس به ، إذا لم يكن هناك تشويشٌ على المتعبدين ، وذلك لما يلي :
1 – حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يقوم من مصلاه الذي صلَّى فيه الصبح ، حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام ، قال : وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم 1.
* يرد عليه : أن كلامهم في أمور الجاهلية كان لتذكر نعمة الإسلام ، وما امتن الله عليهم به .
* يجاب عنه : أن هذا غير مسلم ، لأمور :
1 – أن هذا مخالفٌ لفهم أهل العلم ، قال القاضي عياض في إكمال المعلم ( 2/646 ) : [ قوله : (( وكانوا يتحدثون ، فيأخذون في أمر الجاهلية )) دليل على جواز التحدث بأخبار الزمان ، وأمور الأمم ... 2 ] .
قال النووي – رحمه الله – في المجموع ( 2/204 ) : [ يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد ، وبأمور الدنيا ، وغيرها من المباحات ، وإن حصل فيه ضحكٌ ونحوه ، ما دام مباحاً ، لحديث جابر بن سمرة ... ].
2 – أنَّ هذا لو كان صحيحاً ، لقال : فيحمدون الله على ما هداهم ، ويشكرونه ، لا أنهم يتضاحكون .
3 – إنشاد حسان بن ثابت – رضي الله عنه – الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإقراره – صلى الله عليه وسلم – له 3 .
* يرد عليه : أن هذا ليس من أمور الدنيا ، أو المباحات ؛ بل مما يتقرب به إلى الله ، لما فيه من الذب عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، والرد على المشركين ، والمنافقين .
* يجاب عنه : بأن كعب بن زهير – رضي الله عنه – كما تقدم ، أنشد شعراً عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –وفيه ذبٌ عنه ، وراجع كلام السفاريني في غذاء الألباب ( 1/184 ) .
4 – عن أنس – رضي الله عنه – قال : وجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد معه ناس ، فقمت ، فقال لي : " أرسلك أبو طلحة " ؟ قلت : نعم فقال : " لطعام " ؟ فقلت : نعم ، فقال لمن معه : " قوموا " ، فانطلق ، وانطلقت بين أيديهم4.
وجه الاستدلال : قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 1/616 ) : [ والغرض منه : أنَّ مثل ذلك من الأمور المباحة ، ليس مما يمنع في المساجد ] .
5 – تفسير الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد صلاة الصبح ، للرؤى5.
وجه الاستدلال : أن تفسير الرؤى ليس من الأمور الدينية ، أو التعبدية ؛ بل هو إلى الأمور العادية الدنيوية ألصق .
6 – معلومٌ أن المسجد هو مكان اجتماع المسلمين ، وملتقاهم ، وكان مأوى أهل الصفة ، وغير ذلك من الأمور التي ليست من قبيل العبادات ؛ بل من الأمور الدنيوية البحتة .
الراجح : أن الكلام في الأمور المباحة ، جائزٌ ، لا بأس به ، إلا أن الأولى تـنـزيه المسجد عنه ، وعدم الإكثار منه ، بحيث يكون مقراً للجلسات ، والاجتماعات ، وعلى هذا يحمل ما تقدم من أدلة المانعين ، وبه تجتمع الأدلة – إن شاء الله - ، والله أعلم 1.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 3/376 ) : [ ويسن أن يصان عن لغطٍ ، وكثرةِ حديثٍ لاغٍ ، ورفع صوتٍ بمكروه ، وظاهر هذا : أنه لا يكره إذا كان مباحاً ، أو مستحباً ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والشافعي – رحمهما الله - ... ]2 .
القسم الثاني : حكم الكلام المباح ، وذلك برفع الصوت :
القول الأول : المنع من رفع الصوت في المسجد بالكلام المباح ، ويستدل لهم بجميع الأدلة التي ذكرت في مبحث : حكم رفع الصوت بالكلام المشروع ، ويزاد هنا :
1 – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد ، فليقل : لا ردَّها الله عليك ، فإن المساجد لم تبن لهذا " .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالدعاء على ناشد الضالة بعدم وجدانها ، وذلك لأنه رفع صوته ، على ما سيأتي تحريره .
2 – أن الكلام المشروع إذا كان منهياً عنه ، فغيره من الكلام أولى .
3 – بناء عمر – رضي الله عنه – للرحبة ، وقال : " من أراد أن يلغط ، أو ينشد شعراً ، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة " .
4 – أن ترك رفع الصوت بالكلام المباح ، أبرأ للذمَّة ، وهو الذي عليه أكثر العلماء .
القول الثاني : أن رفع الصوت في المسجد ، لا بأس به ، ويستندون إلى حديث كعب بن مالك مع ابن أبي حَدْرَدْ المتقدم ، وهو مما يَرِد على الأدلة السابقة ، وتأويل بعض العلماء له ، يحتاج إلى نظرٍ وتأمل .
الراجح : أن رفع الصوت بالكلام المباح ، أقل أحواله الكراهة1 ، وقد يصل إلى التحريم في بعض المسائل ، مثل : إذا كان فيه تشويش على المتعبدين ، وكإنشاد الضالة ، ونحوهما والله – تعالى – أعلم 2.
مسألة : حكم إنشاد الضالة :
ورد في النهي عن إنشاد الضالة عِدَّةُ أحاديث ، منها :
1 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد ، فليقل : لا ردَّها الله عليك ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا " 3 .
وورد نحوه عن بريدة 4 ، وعن جابر 5.
2 – وعن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " نهى عن إنشاد الضالة في المسجد "6 .
3 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " إذا رأيتم من يبيع ، أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد ضالةً ، فقولوا : لا ردها الله عليك " 7 .
4 – عن أبي عثمان قال : سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالةً في المسجد ، فغضب ، وسبَّه ، فقال له رجلُ : ما كنت فحَّاشاً يا ابن مسعود ! قال : إنَّا كنَّا نؤمر بذلك .8
5 – عن عمرو بن دينار ، أنه سمع طاووساً ، يقول : نشد رجلٌ ضالته في المسجد ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " لا وجد ضالته "1 .
هذا ما استطعت جمعه من الأحاديث ، والآثار الواردة في النهي عن إنشاد الضالة2 .
وقد نص الأبي في شرح مسلم ( 2/246 ) على أن النهي للكراهة ، وكذلك البغوي في شرح السنة ( 2/374 ) ، وأبو داود في سننه .
ولعل هذا النهي للتحريم أقرب منه للكراهة فقط ، وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا على هذا الرجل ، وأمر من سمعه بالدعاء عليه .
والنهي هاهنا ، والدعاء عليه بسبب رفع صوته ، وتشويشه ، لا لأن نشدان الضالة في المسجد لا يجوز ، وذلك لما يلي :
1 – أن في بعض روايات مسلم : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – " لما صلَّى ، قام رجلٌ ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر " .
وجه الاستدلال : أن هذا الرجل قام بعد انقضاء الصلاة ، والناس مشغولين بالأذكار ، وبعضهم يقضي ما فاته من الصلاة ، فقام هذا الرجل : ونادى على مَن وجد جمله .
2 – أن في بعض روايات مسلم : جاء أعرابي بعدما صلَّى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة الفجر ، فأدخل رأسه من باب المسجد ...
وجه الاستدلال : أن هذا الرجل على هذه الصفة لا يمكن له أن يسأل بعيره إلا برفع صوته ، من أجل أن يُخبِر من في المسجد عن فقدانه جَمَلَه .
3 – نص بعض أهل العلم على ذلك :
أ – قال السهارنفوري في بذل المجهود ( 3/315 ) : قال أبو داود : ( باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد ) أي : طلبها برفع الصوت .
ب – وقال أيضاً ( 3/316 ) " من سمع رجلاً ينشد ضالةً " أي : يطلبها برفع الصوت .
ج – قال القرطبي في المفهم ( 2/174 ) قوله : " فليقل : لا ردَّها الله عليك " دعاءٌ على الناشد في المسجد بعدم الوجدان ، فهو معاقبةٌ له في ماله على نقيض مقصوده ، فَلْيُلْحَق به ما في معناه ، فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحةً ترجع إلى الرافع صوته ، دعيَ عليه على نقيض مقصوده ، ذلك بسبب جريمة رفع الصوت في المسجد ، وإليه ذهب مالك ... .
د - قال في عون المعبود ( 2/97 ) ، وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة ، ومافي معناه من البيع ، والشراء ، والإجارة ، والعقود .
هـ - بوَّب ابن حبان في صحيحه على هذا الحديث : ( ذكر الزجر عن رفع الأصوات في المساجد ؛ لأجل شيء من أسباب هذه الدنيا الفانية ) .
و - قال الأصمعي : في كل شيءٍ رفعت به صوتك ، فقد أنشدتَ ضالةً كانت أو غيرها ، انظر شرح سنن ابن ماجة لمغلطاي ( 4/1300 ) .
* يَرِدُ على ما تقدم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم – علَّل دعائه على ناشد الضالة ، بأن المساجد لم تُبْنَ لهذا ، أي لم تبن لنشد الضالة ، ونحوها ، ولم يعلل سبب نهيه ودعائه بأنَّ هذا من أجل رفع صوته .
يجاب عنه :
1 – أنه ينبغي عند استنباط الحكم من النص ، أن يُنْظَرَ إلى الحالة التي حَكم عليها النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة ملابسات الحادثة ، ونحو ذلك من أجل أن يكون حكمنا صواباً .
2 – أن عندنا أصلٌ ، وهو جواز الكلام بحديث الدنيا إذا كان مباحاً .
3 – أنا لو طردنا هذه العلَّة التي ذكروها ، لعارضنا الأحاديث الأخرى ، وذلك لأنَّـا سننهى عن مناشدة الأشعار ، وعن كلام الدنيا المباح ، وعن النوم في المسجد ، وعن المقاضاة في المسجد ... إلخ ، والتي هي في بادئ الرأي ليس مما بنيت المساجد له .
فيتلخص لنا : أن نشدان الضالة – بدون إزعاج ، ولا رفع للصوت – أنه دائرٌ بين الكراهة ، والتحريم ، أما إذا كان برفعٍ للصوت فهو للتحريم أقرب – والله أعلم - .
قال الباجي في المنتقى ( 1/312 ) : [ مسألة : قال مالك في المبسوط ، في الذي ينشد الضالة في المسجد، لا يقوم رافعاً صوته ، وأما أن يسأل عن ذلك جلساءه غير رافعٍ لصوته ، فلا بأس بذلك .
ووجه ذلك : أن رفع الصوت ممنوعٌ في المساجد ، لما ذكرناه1 ، فأمَّا سؤاله جليسه فمن جنس المحادثة ، وذلك غير ممنوعٍ ، مالم يبلغ ذلك اللغط من الإكثار ] .
مسألة : حكم السؤال في المسجد :
الصحيح في المسألة : ما قاله شيخ الإسلام ، كما في مجموع الفتاوى ( 22/206 ) : [ ... فإن كان به ضرورة ، وسأل في المسجد ، ولم يؤذِ أحداً بتخطيه رقاب الناس ، ولا غير تخطيه ، ولم يكذب فيما يرويه ، ويَذْكر من حاله ، ولم يجهر جهراً يضر الناس ، مثل أن يسأل والخطيب يخطب ، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ، ونحو ذلك جاز ، والله أعلم ] .
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنه – أصلٌ في المسألة – لو صحَّ – ، حيث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً ؟ " قال أبو بكر : دخلت المسجد ، فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة بين يدي عبد الرحمن ، فأخذتها ، فدفعتها إليه2 .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، لم يتعرض أو ينكر على أبي بكر فعله ، أو ينهَ عن السؤال في المسجد ، ولو كان السؤال غير جائزٍ لم يؤخر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بيانَ حكمه ، فدل ذلك على جوازه ، والله أعلم .
وانظر لهذه المسألة : مجموع الفتاوى ( 22/206 ) ، وبذل العسجد لسؤال المسجد للسيوطي وهي ضمن فتاواه ( 1/88 ) ، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ( 353 ) ، وفتاوى اللجنة ( 6/284 ) ، وأحكام المساجد في الشريعة الإسلامية للشيخ إبراهيم بن صالح الخضيري ( 154 ) ، وأحكام المساجد في الإسلام للدكتور محمود بن حسين الحريري ( 269 ) ، والآداب الشرعية (3/385) وغذاء الألباب ( 2/323 ) .
مسألة : حكم تعريف اللقطة في المسجد :
ينبغي قبل الخوض في بيان الحكم الشرعي للمسألة ، التنبيه على أمور :
1 – أن بعض الفقهاء لم يتعرض للكلام عن مكان تعريف اللقطة .
2 – أن بعض من أشار إلى هذه المسألة ، يقول : ( وتعرف على أبواب المساجد .. ) ، ولم يتعرض لخصوص مسألتنا ، ولا شك أنَّ تعريفها على أبواب المساجد أولى ، خروجاً من الخلاف2.
3 – أن من تكلم عن مسألتنا تجده يقول : ( تعريف اللقطة : هو المناداة .. ) ثم يجمعون بين ( المساجد ، والأسواق ، ومجامع الناس ) مما يجعل المرء قد يتوقف في طرد الحكم على تعريفها بكتابة ورقة ، أو سؤال آحاد الناس .
فأقدم بمقدمة تبين مقصود الفقهاء من قولهم : ( تعريف اللقطة ) ، فأقول – مستعيناً بالله – 3 .
1 – قال في غمز عيون البصائر ( 2/211 ) : [ تعريف اللقطة : هو المناداة في الأسواق ، والمساجد ، والشوارع : مَنْ ضاع له شيء ، فليطلبه عندي .. ] .
2 – قال في درر الحكَّام شرح غرر الأحكام ( 2/131 ) : [ .. بأن ينادي : إني وجدت لقطةً .. ] .
3 – وكذلك نصَّ ابن الهمام في فتح القدير على المناداة ( 6/115 ) .
4 – قال في تكملة حاشية ابن عابدين المسمَّاة بـ ( قرة عيون الأخيار ) : [ قوله : ( أي نادى بها .. إلخ ) أشار إلى أن المراد بالتعريف : الجهر به .. ]1 .
5 – قال ابن جزي المالكي في القوانين الفقهية ( 224 ) : ( فيجب تعريفه سنةً باتفاق ، وينادي عليه في أبواب المساجد ، ودبر الصلوات ... ) .
6 – قال في الإقناع ( 3/45 ) : [ وتعريفه على الفور .. بالنداء عليه .. في مجامع الناس ؛ كالأسواق ، والحمامات ، وأبواب المساجد .. ] .
7 – قال المجد ابن تيمية في المحرر ( 1/371 ) : [ ويجب تعريف لقطةٍ ... بالنداء في مجامع الناس ] .
8 – قال في المحلَّى ( 7/110 ) : [ لكن تعريفه هو : أن يقول في المجامع : الذي يرجو وَجْدَ صاحبه فيها، أو لا يرجو : مَنْ ضاع له مال ، فَلْيُخْبِر بعلامته ] .
ومعلومٌ أنَّ هذا لو كان بصوتٍ منخفض لم يكن قد أدَّى الذي عليه ، وإنما هو محتالٌ لإبراء ذمته2 .
* أدلة المانعين من تعريف اللقطة في المسجد :
1 – أخرج النسائي في سننه الكبرى ( 3/420 ط القديمة ) ، ومن طريقه ابن حزم في المحلَّى ( 7/116 ) عن رجلٍ من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سئل عن الضالة ، فقال : " اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ، فإن جاء صاحبها ، فادفعها إليه ، وإن لم يأتِ ، فعرفها سنة ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنك بها " .
* يرد عليه : أن الحديث ضعيف ، فقد قال فيه ابن حزم : وهذا حديثٌ هالك ، لأن الليث لم يسم من أخذ عنه ، وقد يرضى الفاضل مالا يُرضى ... ثم هو خطأ ، لأنه قال فيه : عن عبد الله بن يزيد ، وإنما هو عن يزيد ، لا عن عبد الله بن يزيد .
وكأن سياق النسائي لروايات الحديث تشير إلى تضعيفه .
2 – أمر عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد3 .
* يرد عليه : أن هذا اجتهاد من عمر – رضي الله عنه - ، وهذا كما لَحِظَ على حسان – رضي الله عنه – إنشاد الشعر ، ولم يوافق عليه .
ثم لا شك أن الأولى تعريفها خارج المسجد خروجاً عن الخلاف .
ثم عمر – رضي الله عنه – لم يبين حكم تعريفها داخل المسجد ، وإنما نصَّ على أن يعرفها الرجل عند باب المسجد فقط ، وهذا غير كافٍ للاستدلال .
3 – قياس تعريف اللقطة على نشدان الضالة :
* يرد عليه :
1 – قد تقدم ترجيح أن نشدان الضالة يحرم إذا كان برفع الصوت ، ويكره إذا كان بدون رفع للصوت ، والكراهة من أجل أدلة النهي عن نشدان الضالة الأخرى ، وهنا لا يوجد أدلة بخصوص تعريف اللقطة .
2 – أن قياس تعريف اللقطة على إنشاد الضالة قياس مع الفاروق ، وذلك لأن ناشد الضالة يطلب لنفسه ، ومُعَرِّفُ اللقطة لا يطلب لنفسه ؛ بل لغيره ، وقد ثبت في غير ما حديث طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من الصحابة التبرع إما لفقراء ، أو تجهيز جيش ، وهو في هذه الحالة لم يطلب – صلى الله عليه وسلم – لنفسه1.
ثم حتى ولو كان يطلب لنفسه فليس هناك حرجٌ – إذا كان بدون رفعٍ للصوت – ، والدليل على ذلك : سؤال الفقير في المسجد ، كما تقدم في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر2 .
4 – أن المساجد لم تُبْنَ لهذا ، وقد تقدمت الإجابة عليه في مبحث إنشاد الضالة .
فتبيَّن لنا أنه لم يوجد دليل ينهض لتحريم تعريف اللقطة في المسجد ،
فننظر إلى القاعدة في الكلام المباح في المسجد ، وهي : أن الكلام المباح جائزٌ بدون رفعٍ للصوت ، ولا تشويش على المتعبدين ،
وأما برفع الصوت فأقل أحواله الكراهة ، وقد يصل إلى التحريم ، كما تقدم ، والله أعلم .
وسئل الإمام مالك – رحمه الله – عن تعريف اللقطة في المساجد ، فقال لا أحب رفع الصوت في المساجد ، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد ، وأحبُّ إليَّ أن لا تعرف في المساجد ، ولو مشى هذا إلى الخلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد ، ولا يرفع صوته لم أَرَ بذلك بأساً3 .
قال القسطلاني في إرشاد الساري ( 5/424 ) : [ .. ويجب أن يكون محل التحريم ، أو الكراهة إذا وقع ذلك برفع الصوت ، كما أشارت إليه الأحاديث ، أما لو سأل الجماعة في المسجد بدون ذلك ، فلا تحريم ولا كراهة ]4.
وبهذا انتهى ما استطعت جمعه في بعض أحكام الكلام في المسجد
فما كان فيه من صواب فمن الله ، وما كان فيه من خطإ ، أو تقصير ، أو هوى فمن نفسي والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان .
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، اللهم ارزقني العلم النافع ، والعمل الصالح .
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وأتمني أن أكون قد أفدتكم إفادة كاملة بإذن الله أعضاء وزوار عـالـم الزين الكرام ♥
المصدر: منتديات عالم الزين
via منتديات عالم الزين http://ift.tt/2vt5Z8a
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire