قصص الانبياء قصه سيدنا ابراهيم عليه السلام
يروى أن ابراهيم عليه السلام ولد ببابل و تزوج سارة و كانت عاقراً لا تلد ثم ارتحل هو و وزجته سارة و ابن أخيه لوط قاصدين أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران وكانوا يعبدون الكواكب السبعة.
والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي، ويعبدون الكواكب ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل بكوكب منها، ويعملون لها أعياداً وقرابين.
وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً، سوى إبراهيم الخليل، وامرأته، وابن أخيه لوط عليهم السلام، وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور، وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولاً، واتخذه خليلاً في كبره قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي كان أهلاً لذلك.
قصه سيدنا ابراهيم عليه السلام
وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً }.
فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة، و بيـَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها، ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئاً، أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر؟
ثم قال منبهاً على ما أعطاه الله من الهدى، والعلم النافع، وإن كان أصغر سناً من أبيه: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي: مستقيماً، واضحاً، سهلاً، حنيفاً، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه، وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده.
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}
{وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي: واقطعني وأطل هجراني.
فعندها قال له إبراهيم: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي: لا يصلك مني مكروه، ولا ينالك مني أذىً، بل أنت سالم من ناحيتي، وزاده خيراً بأنى سأستغفر لك ربى الذى هداني لعبادته والإخلاص له.
ولهذا قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}
وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
ثم قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
وهذه مناظرة لقومه، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل لأنها مخلوقة مربوبة، مصنوعة مدبرة، مسخرة، تطلع تارة، وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو، ولا رب سواه فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب.، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبين أنها مسخرة، مسيرة مقدرة مربوبة.
والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران، فإنهم كان يعبدونهاوأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم، وأهانها وبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
وقال في سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }
يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان، وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي: معتكفون عندها وخاضعون لها.
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ}
ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد.
وقال لهم: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} سلموا له أنها لا تسمع داعياً، ولا تنفع ولا تضر شيئاً، وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال.
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
بل إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شيء، فاطر السماوات والأرض، الخالق لهما على غير مثال سبق، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
وقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها، بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم.
قيل: إنه قال هذا خفية في نفسه، وقال ابن مسعود: سمعه بعضهم. وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضره فقال: إني سقيم.
كما قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}
فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في بلدهم، راغ إلى آلهتهم، أي: ذهب إليها مسرعاً مستخفياً، فوجدها في بهو عظيم، وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها.
فقال لها على سبيل التهكم والازدراء: {أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي: حطاماً، كسرها كلها.
{إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} قيل: إنه وضع القدوم في يد الكبير،
. فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء، لكنهم قالوا من جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة ضلالهم وخبالهم: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي: يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدارء بها، فهو المقيم عليها والكاسر لها.
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي: في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه.
وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على جميع عبّاد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه
فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا، {قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا..} قيل معناه: هو الحامل لي على تكسيرها، وإنما عرض لهم في القول: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}
وإنما أراد بقوله هذا، أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي: فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، أي: في تركها لا حافظ لها، ولا حارس عندها.
وقال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء، أي: فأطرقوا ثم قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} أي: لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}
عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبقَ لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته، ودينه وبرهانه كما قال تعالى:
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.
وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا فيه النار، فاضطربت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط.
ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هيزن، وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً، ثم ألقوه منه إلى النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد حين قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}
عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم:
((لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك)).
وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال: ألك حاجة؟
فقال: أما إليك فلا.
ويروى عن ابن عباس، أنه قال: جعل ملك المطر يقول: متى أومر فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع. {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
قال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله قال: {وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لأذى إبراهيم بردها.
وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم يحرق منه سوى وثاقه.
وقال الضحاك: يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها شيء غيره.
وقال السدي: كان معه أيضاً ملك الظل، وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار، وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم، فعن أبي هريرة أنه قال: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعم الرب ربك يا إبراهيم.
وعن المنهال بن عمرو أنه قال: أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً، وأنه قال: ما كنت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها، صلوات الله وسلامه عليه.
هذه هى مناظرة إبراهيم الخليل مع من أراد أن ينازع العظيم الجليل في العظمة ورداء الكبرياء فادعى الربوبية، وهوَ أحدُ العبيد الضعفاء
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه دليله، وبين كثرة جهله، وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة.
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار، وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان طغى وبغى، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا.
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال على إنكار وجود الله تعالى، فحاجّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية.
فلما قال الخليل: (ربي الذي يحي ويميت قال: أنا أحي وأميت).
يعني أنه إذا آتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر.
قَال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها. وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء. فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإنّ الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت. ولهذا قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبّار ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه. ثم دعاه الثانية فأبى عليه. ثم دعاه الثالثة فأبى عليه.
وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي.
فجمع النمرود جيشه وجنوده، وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذباباً بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاماً باديةً، ودخلت واحدةٌ منها في منْخَر الملكِ فمكثت في منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها فكان يُضْرَبُ رأسُه بالمرِازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها.
قال الله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ}.
لما هجر قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط ، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، كرامة له من الله، حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه.
والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام، وهي التي قال الله عز وجل: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، إذ نزل منزلاً فأتى الجبار فقيل له: إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي، فلما رجع إليها قال إنَّ هذا سألني عنك؟ فقلت إنك أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك وأنك أختي فلا تكذبيني عنده.
فانطلق بها، فلما ذهب يتناولها أخذ فقال: "ادعى الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها.
فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأرسل ثلاث مرات
فدعا أدنى حشمه فقال: إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر.
فجاءت وإبراهيم قائم يصلي فلما أحس بها انصرف فقال: مَهْيَمْ،
فقالت: كفى الله كيد الظالم وأخدمني هاجر".
وقال الإمام أحمد: فى رواية أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقوله لسارة "إنها أختي".
دخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس
قال: فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك؟
قال: أختي
قال: فأرسل بها
فأرسل بها إليه، وقال لا تكذبي قولي فإني قد أخبرته أنكِ أختي إنْ ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك.
فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت تتوضَّأ وتصلَّي، وتقول اللهم إن كنت تعلم إني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي فلا تسلط عليَّ الكافر،
قال: فغطَّ حتى رَكَضَ برجله.
عن أبي هريرة:[/color] إنها قالت اللهم أن يمت يقل هي قتلته، قال: فأرسل.
قال: فقال في الثالثة أو الرابعة: ما أرسلتم إليّ إلا شيطاناً أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر.
قال: فرجعت فقالت لإبراهيم: أشعرت أن الله رد كيد الكافرين وأخْدَمَ وليدة
وقوله في الحديث "هي أختي"، أي في دين الله،
وقوله لها: إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك
وقوله لها لما رجعت إليه: مَهْيَمْ؟ معناه ما الخبر؟ فقالت: إن الله رد كيد الكافرين. وفي رواية الفاجر. وهو الملك، وأخدم جارية.
وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عز وجل ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء، وهكذا فعلت هي أيضاً، فلما أراد عدو الله، أن ينالَ منها أمراً قامت إلى وضوئها وصلاتها، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام.
ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر المصرية.
ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بماله من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور، المعروف بغور زغر فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً.
قال أهل الكتاب: إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وان الله بشَّره بذلك، وأنه لما كان لإبراهيم ببلاد المقدس عشرون سنة، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام، إن الرب قد حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه، لعل الله يرزقني منها ولداً.
فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخل بها حملت منه، قالوا: فلما حملت ارتفعت نفسها، وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة
قالوا: وولدت هاجر اسماعيل ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.
غير أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل واشتدت غيرة سارة منها، طلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها فسارَ بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم.
عن ابن عباس قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفى أثرها على سارة".
ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء.
ثم قفّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً؛ وجعل لا يلتفت إليها،
فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى،أو يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً ..
فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم "فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها.
ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم". أو قال: "لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً مَعِيْناً".
فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء،لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جرييّن فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا.
قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.
وشبَّ الغلام وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك، زوّجوه امرأة منهم.
وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل، يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه؟
فقالت: خرج يبتغي لنا.
ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟
فقالت: نحن بشرٍّ نحن في ضيق وشدّةٍ وشكت إليه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيّر عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟
فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا كذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة.
قال: فهل أوصاك بشيء؟
قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غيّر عتبة بابك.
قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوَّج منهم أخرى، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله. ثم أتاهم بعد فلم يجده،
فدخل على امرأته فسألها عنه؟
فقالت: خرج يبتغي لنا،
قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم،
فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل،
فقال: ما طعامكم؟
قالت: اللحم
قال: فما شرابكم؟
قالت: الماء.
قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب. ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يثبت عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير.
قال: فأوصاك بشيء؟
قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
ثم ما لبث عنهم ما شاء الله. ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَبْلاً له تحت دوحةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا، كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر،
قال: فاصنع ما أمرك به ربك،
قال: وتعينني؟
قال: وأعينك.
قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
قال: فجعلا يبنيان، حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
قال الله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِي، رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِين، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}.
يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فبشّره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام، لأنه أول من ولد له على رأس ستٍ وثمانين سنة من عمر الخليل. وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل، لأنه أول ولده وبكره.
وقوله {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي شبَّ وصار يسعى في مصالحه كأبيه. قال مجاهد: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي شبَّ وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل.
فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده. "رؤيا الأنبياء وحيٌ".
وهذا اختبار من الله عز وجل لخليلهِ في أن يذبح هذا الابن العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك وتركها هناك، ثقة بالله وتوكلاً عليه، فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً، ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه، وهو بكره ووحيده، الذي ليس له غيره، أجاب ربَّه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته.
قال الله تعالى : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" " ."
وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة لما مروا بها مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ، ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى .
قال الله تعالى : " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" " ."
وقال تعالى : " ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون" " ."
وقال تعالى : " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم" " ."
يذكر تعالى : أن الملائكة - قالوا : وكانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل - لما وردوا على الخليل حسبهم أولا أضيافاً ، فعاملهم معاملة الضيوف ، وشوى لهم عجلاً سميناً من خيار بقره ، فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية ، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام فنكرهم إبراهيم : " وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط " أي لندمر عليهم . فاستبشرت عند ذلك سارة غضباً لله عليهم ، وكانت قائمة على رءوس الأضياف كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم ، فلما ضحكت استبشاراً بذلك ، قال الله تعالى : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " أي بشرتها الملائكة بذلك : " فأقبلت امرأته في صرة " أي في صرحة : " فصكت وجهها " أي كما يفعل النساء عند التعجب وقالت : " يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا " أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضاً ، وهذا بعلي ، أي زوجي ، شيخاً ؟ تعجبت من وجود ولد والحالة هذه . ولهذا قالت : " إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" " ."
وكذلك تعجب إبراهيم عليه السلام استبشاراً بهذه البشارة وتثبيتاً لها وفرحاً بها : " قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين " أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه ، فبشروهما " بغلام عليم " وهو إسحاق أخو إسماعيل ، غلام عليم مناسب لمقامه وصبره ، وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر ، وقال في الآية الأخرى : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" " ."
وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو إسماعيل ، وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده .
وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ ، وهو المشوي رغيفاً من مكة فيه ثلاثة أكيال وسمن ولبن ، وعندهم أنهم أكلوا ، وهذا غلط محض ، وقيل : كانوا يرون أنهم يأكلون والطعام يتلاشى في الهواء .
وعندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم : أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا ولكن اسمها سارة ، وأبارك عليها وأعطيك منها ابناً ، وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه ، فخر إبراهيم على وجهه - يعني ساجداً - وضحك قائلاً في نفسه ، أبعد مائة سنة يولد لي غلام ، أو سارة تلد وقد أتت عليه تسعون سنة ؟ !
وقال إبراهيم لله تعالى : ليت إسماعيل يعيش قدامك ، فقال الله لإبراهيم : بحق أن امرأتك سارة تلد لك غلاماً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا لحين من قابل ، وأوثقه ميثاقى إلى الدهر ولخلفه من بعده ، وقد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته جداً كثيراً ، ويولد له اثنا عشر عظيماً وأجعله رئيساً لشعب عظيم .
وقد تكلمنا على هذا بما تقدم . . والله أعلم .
فقوله تعالى : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " دليل على أنها تستمع بوجود ولدها إسحاق ، ثم من بعده بولد ولده يعقوب . أي يولد في حياتهما لتقرأ أعينهما به كما قرت بولده ، ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة ، ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله ، وقال تعالى : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا " وقال تعالى : " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب" " ."
وهذا إن شاء الله ظاهر قوي ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، عن إبراهيم بن يزيد التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، قال : قلت : يا رسول الله . . أي مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " قلت : ثم أي ؟ قال : " ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد" " ."
وعند أهل الكتاب ، أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى ، وهو مسجد إيليا ببيت المقدس شرفه الله .
وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث ، فعلى هذا يكون بناء يعقوب عليه السلام وهو - إسرائيل - بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء . وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحاق ، لأن إبراهيم عليه السلام لما دعا ، قال في دعائه كما قال تعالى : " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم * ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء * الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء * ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب" " ."
وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام ، لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثاً كما ذكرناه عند قوله : " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " ، - وكما سنورده في قصته - فالمراد من ذلك والله أعلم ، أنه جدد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة ، ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه . وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه .
لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " .
وقال تعالى : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " .
وقال تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين * وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " .
يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء إبراهيم عليه السلام أنه بنى البيت الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس ، يعبدون الله فيه ، بوأه الله مكانه ، أي أرشده إليه ودله عليه .
وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره : أنه أرشد إليه بوحي من الله عز وجل . وقد ذكرنا في صفة خلق السموات : أن الكعبة بحيال البيت المعمور ، بحيث إنه لو سقط لسقط عليها ، وكذلك معابد السموات السبع ، كما قال بعض السلف : إن في كل سماء بيتاً يعبد الله فيه أهل كل سماء ، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض .
فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتاً يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السموات ، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له ، المعين لذلك منذ خلق السموات والأرض ، كما ثبت في الصحيحين : " أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلي يوم القيامة " .
ولم يجىء في خبر صحيح عن المعصوم أن البيت كان مبنياً قبل الخليل عليه السلام ، ومن تمسك في هذا القول بقوله " مكان البيت " قد طفليس بناهض ولا ظاهر ، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله ، المقرر في قدره ، المعظم عند الأنبياء موضعه ، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم .
وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة ، وأن الملائكة قالوا له : فنا قبلك بهذا البيت ، وأن السفينة طافت به أربعين يوماً أو نحو ذلك ، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل ، وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها ، فأما إن ردها الحق فهي مردودة .
وقد قال الله: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى . البيت الذي ببكة . وقيل محل الكعبة " فيه آيات بينات " أي على أنه بناء الخليل ، والد الأنبياء من بعده وإمام الحنفاء من ولده ، الذين يقتدون به ويتمسكون بسنته ، ولهذا قال : " مقام إبراهيم " أي الحجر الذي كان يقف عليه قائماً لما ارتفع عن قامته ، فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ، ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء . كما ذكر في حديث ابن عباس الطويل .
وقد كان هذا الحجر ملصقاً بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخره عن البيت قليلاً ، لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت ، واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا ، فإنه قد وافقه ربه في أشياء ، منها قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم : لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " . وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام . وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وثور ومن أرسـى ثبيراً مكانــــــه وارق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حــق البيت من بطن مكــة وبـــالله إن الله ليس بغـافــل
وبـالحجر المســود إذ يمسحـونـــه إذ اكتنفوه بالضحى والأصائل
ومواطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعــل
يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة . ولهذا قال تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " أي في حال قولهما : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عز وجل ، وهما يسألان من الله عز وجل السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور : " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " .
والمقصود أن الخليل بني أشرف المساجد في أشرف البقاع ، في واد غير ذي زرع ، ودعا لأهلها بالبركة ، وأن يرزقوا من الثمرات ، مع قلة المياه وعدم الأشجار والزروع والثمار ، وأن يجعله حرماً محرماً وآمناً محتماً .
فاستجاب الله - وله الحمد - له مسألته ، ولبى دعوته ، وآتاه طلبته ، فقال تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " وقال تعالى : " أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا " .
وسأل الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم ، أي من جنسهم ، وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة ، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية ، سعادة الأولى والآخرة .
وقد استجاب الله له فبعث فيهم رسولاً وأي رسول ! ختم به أنبياءه ورسله ، وأكمل له من الدين مالم يؤت أحداً قبله ، وعم بدعوته أهل الأرض على إختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ، في سائر الأقصار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة ، وكان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء ، لشرفه في نفسه وكمال شفقته على أمته ، ولطفه ورحمته ، وكريم محتده وعظيم مولده ، وطيب مصدره ومورده .
ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السلام إذا كان باني الكعبة لأهل الأرض ، أن يكون منصبه ومحله وموضعه ، في منازل السموات ورفيع الدرجات ، عند البيت المعمور ، الذي هو كعبة أهل السماء السابعة المبارك المبرور ، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ، ثم لا يعودون إلى يوم البعث والنشور .
وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بنائه للبيت ، وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار بما فيه كفاية ، فمن أراد فليراجعه ثم .. ولله الحمد .
فمن ذلك ما قال السدى : لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت لم يدريا أين مكانه ، حتى بعث الله ريحاً يقال له ( الخجوج ) لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، وأتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس . وذلك حتى يقول تعالى : " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " .
فلما بلغا القواعد وبنيا الركن ، قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني .. اطلب لي حجراً حسناً أضعه هاهنا . قال : يا أبت .. إني كسلان تعب . قال : على ذلك فانطلق ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاء إسماعيل بحجر فوجده عند الركن . قال : يا أبت .. من جاءك بهذا ؟ قال : جاء به من هو أنشط منك . فبنيا وهما يدعوان الله : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " .
قال الله تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " لما وفي ما أمره به ربه من التكاليف العظيمة ، جعله للناس إماماً يتقدون به ويأتمون بهديه . وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه ، وباقية في نسبه ، وخالدة في عقبه فأجيبب إلى ما سأل ورام وسلمت إليه الإمام بزمام ، واستثنى من نيلها الظالمون ، واختص بها من ذريته العلماء العاملون ، كما قال تعالى : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " وقال تعالى : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " .
فالضمير في قوله : " ومن ذريته " عائد إلى إبراهيم على المشهور ، ولوط وإن كن ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليباً ، وهذا هو الحامل للقائد الآخر أن الضمير على نوح كما قدمنا في قصته . . والله أعلم .
وقال تعالى : " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب " الآية . فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل ، فمن ذريته وشعيته ، وهذه خلعة سنية لا تضاهى ، ومرتبه عليه لا تباهي . وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان : إسماعيل من هاجر ، ثم إسحاق من سارة ، وولد له يعقوب - وهو إسرائيل - الذي ينتسب إلى سائر أسباطهم ، فكانت فيهم النبوة ، وكثروا جداً بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالحبيبي والنبوة ، وحتى ختموا بعيسى ابن مريم من نبي إسرائيل .
وأما إسماعيل عليه السلام ، فكانت منه العرب على إختلاف قبائلها ، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق وسيدهم ، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ، المكي ثم المدني صوات الله وسلامه عليه .
فلم يوجد من هذا الفرع الشريف والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة ، والدرة الزاهرة ، وواسطة العقد الفاخرة ، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع ، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة .
وقد ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال : " سأقوم مقاماً يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم " .
فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق ، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق ، في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق .
وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن منصور عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول : " إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق : أعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة " .
ورواه أهل السنن من حديث منصور به .
وقال تعالى : " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم " ذكر المفسرون لهذا السؤال أسباباً بسطناها في التفسير وقررناها بأتم تقرير .
والحاصل : أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل ، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور ، اختلفوا في تعيينها على أقوال ، والمقصود حاصل على كل تقدير ، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن ، ويخلط ذلك بعضه في بعض ، ثم يقسمه قسماً ويجعل على كل جبل منهم جزءاً ففعل ما أمر به ، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن ، فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه ، وكل ريشة تأتي إلى أختها ، حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه ، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء كن فيكون ، فأتين إليه سعياً ، ليكون أبين له وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيراناً .
ويقال إنه أمر أن يأخذ رءوسهن في يده ، فجعل كل طائر يأتي فيلقى رأسه فتركب على جثته كما كان . . فلا إله إلا الله .
وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علماً يقيناً لا يحتمل النقيض ، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عياناً ، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين ! فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه غاية مأموله .
وقال تعالى : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين "
ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين ، كون الخليل على ملتهم وطريقتهم ، فبرأه الله منهم ، وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله : " وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده " أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة ؟ ولهذا قال : " أفلا تعقلون " إلى أن قال : " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " .
فبين أنه كان على دين الله الحنيف ، وهو القصد إلى الإخلاص ، والإنحراف عمداً عن الباطل إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية .
كما قال تعالى : " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون * وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم * صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون * قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون * أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " .
فنره الله عز وجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً ، وبين أنه إنما كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين ، ولهذا قال تعالى : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه " يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه ، ومن تمسك بدينه من بعدهم : " وهذا النبي " يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل ، وكمله الله تعالى له ، وأعطاه ما لم يعط نبياً ولا رسولاً من قبله ، كما قال تعالى: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " وقال تعالى : " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " .
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيدهما الأزلام فقال : " قاتلهم الله . . والله ما استقسما بالأزلام قط " .
لم يخرجه مسلم .
وقوله : " أمة " أي قدوة إماماً مهتدياً داعياً إلى الخير ، يقتدى به فيه " قانتا لله " أي خاشعاً له في جميع حالاته وحركاته وسكناته " حنيفا " أي مخلصاً على بصيرة " ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه " أي قائماً بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله " اجتباه " أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته ، واتخذه خليلاً ، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة .
وقال تعالى : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا " يرغب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام ، لأنه كان على الدين القويم والصراط المستقيم ، وقد قام بجميع ما أمره به ربه ، ومدحه تعالى بذلك فقال : " وإبراهيم الذي وفى " ولهذا اتخذه الله خليلاً ، والخلة هي غاية المحبة كما قال بعضهم :
قـــد تخللت مسلــك الروح مني وبــذا سمى الخليــل خليــلاً
وهكذا نال هذه المرتبة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلوات الله وسلامه عليه ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهم من حديث جندب البجلي وعبد الله بن عمرو وابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيها الناس . . إن الله اتخذني خليلاً " .[/SIZE]
المصدر: منتديات عالم الزين
via منتديات عالم الزين http://ift.tt/2AAOZMT
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire